آراء حرة
هانى عبد الفتاح شوره يكتب: الخطاب الدعوى فى مصر.. أسمع جعجعة ولا أرى طحناً
تراثنا فى فقه الخطاب الدعوى تراث أصيل ، ضارب بجزوره فى أعماق الثقافة الاسلامية ، وقد تم التاسيس لهذا الخطاب بقوله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ولو لم يكن هناك مرجع فى الخطاب الدينى سوى هذه الاية لكانت كافية فى بيان ماهية الخطاب الدينى المتوازن ولكانت ايضا فاضحة لواقع كثير من الخطباء الذين يعتلون المنابر او يطلون على شاشات التلفاز او ياتينا صوتهم عبر اثير المذياع أو من يكتبون فى الصحف والدوريات فى وقت اصبح فيه الخطاب الدعوي خطابا ميكافيلليا لا يعبء بحال المخاطبين بقدر ما يعبء بالحصول على التاييد الجماهيرى .
الاية السابقة هى الاية (125 ) من سورة النحل وكما يقول الامام القرطبى ان هذه الاية نزلت على النبى –صلى الله عليه وسلم- بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره الله –عز وجل- أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، اذا فهذه الاية انما نزلت لتوجيه المسلمين لكيفية الخطاب مع غير المسلمين وان كان الامر كذلك فانها بين المسلم والمسلم اولى .
ولبيان ما المقصود بالحكمة فى الاية نقف فقط عند الحد اللغوى فهو كفيل بتقريب الصورة الى الاذهان فالحكمة – بكسر الحاء والكاف – مأخوزة من كلمة الحكمة – بفتح الحاء والكاف- وهى الحلقة التى توضع فى فم الدابة فتمنعها من العبث اثناء سيرها، وقياسا لهذا المعنى اللغوى على حال الخطباء والدعاه فذلك معناه ان يكون لدى الداعيه بصيرة نافذه تجعله يحدد الاولويات قبل الخوض فى اطروحته، ثم يحدد الاسلوب الذى يتناسب مع حال المخاطبين وخلفياتهم الثقافية حتى لا يتحول خطابه الى مجرد جعجعة لا طائل من ورائها ولا فائدة.
وأدبيات الاسلام تكاد تكون مكتظة بالامثلة الجلية الواضحه على هذا المعنى لكن يكفى الاشارة فى هذا الموضع الى قصة دارت بين طفلين هما الحسن والحسين رضي الله عنهما، هذه القصة تجسيد صادق لما ينبغي ان يكون عليه الداعية فيروى أنهما رأيا رجلاً لا يحسِن الوضوء، وأرادا أن يعلماه الوضوء الصحيح دون أن يجرحا مشاعره، فما كان منهما إلا أنهما افتعلا خصومة بينهما، كل منهما يقول للآخر: أنت لا تحسِن الوضؤ، ثم تحاكما إلى هذا الرجل أن يرى كلا منهما يتوضأ، ثم يحكم: أيهما أفضل من الآخر، وتوضأ كل منهما فأحسن الوضوء، بعدها جاء الحكم من الرجل يقول: كل منكما أحسن، وأنا الذي ما أحسنت. هذه القصة على بساطتها لكنها تعكس الجو السائد وقتها فى معالجة الخطاب الدعوى الذى كان من نتاجه ذلك التراث الضخم من الفكر والابداع، وما أروع هذا المعنى فى ظل خطاب دعوى معاصر انحرف عن مساره ليصبح حالة من التلاسن والتشهير، مفتقدا ابجديات الخطاب وهى الحكمة والموعظة الحسنة، يروى لنا معاوية بن الحكم السلمي – رضى الله عنه- واقعة حدثت معه شخصيا يقول “صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أماه، ما شأنكم تنظرون؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتونني، فلما رأيتهم يسكتونني سكت. قال: فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي وأمي ما ضربني ولا سبني”. وفي رواية: “فما رأيت معلمًا قط أرفق من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال: “إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن”.
على مدار اعوام مضت كدنا ان نصاب بحالة من الغثيان وذلك لانحراف الخطاب الدينى عن مساره الصحيح اما الى تشدد بغيض يتنافى مع الطبيعة السمحة للاسلام وينم عن سوء فهم للنصوص، واما الى ميوعة لا يرجى من ورائها سوى النفاق واتباع الهوى، والاسلام برىء من هذين النوعين، ونحن لا ننكر أن فى تراثنا سواء التفسيرى او الحديثى أو الفقهى أو التاريخى كثير مما يجب العناية بمراجعته وتنقيته مما علق به خاصة بعد القرون الثلاثة الاولى، وقد اصبحت هذه هى الضرورة الملحة للتخلص من حالة التشويش التى لا ينجو منها المثقف او العامى، بل ان تجاهل هذا المطلب قد يعطى ذريعة للمتطرفين لارتكاب أعمال تتنافى مع روح الاسلام بدعوى موافقة ما يرتكبون لاحداث او اخبار اوردتها كتب التراث كما هو الحال عندما احرقت داعش – دولة الخلافة الاسلامية فى العراق والشام – الطيار الاردنى معاذ الكساسبة حيا بدعوى ان ابا بكر الصديق تعامل بذات المنطق مع المرتدين بشاهد احراقة للفجاءة السلمى الذى اتى اليه يطلب سلاحا ورجالا لمحاربة المرتدين فجهز الصديق معه جيشا فراح يحارب المسلمين والمرتدين معا ويسلب اموالهم، فارسل الصديق من خلفه جيشا فأوقعه فى الاسر ثم أمر باحراقه حيا وهذا الرواية لا تصح على الاطلاق لان ما جاء فيها يتنافى اولا مع السمات الشخصية لابى بكر الصديق الذى كان يوصف بأنه رجل رقيق لا يميل الى العنف فى غزوة بدر استشاره النبى صلى الله عليه وسلم فى أمر اسرى بدر فما كان من ابى بكر الا ان قال يا رسول الله “يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا” ثم ان رواية احرقه للفجاءة السلمى هى رواية باطله مدار سندها على “علوان بن دَاوُدَ البجلي” وهو رجل مطعون في روايته، قال الحافظ بن حجر في لسان الميزان: “قال البخاري: علوان بن داود- ويقال بن صالح- منكر الحديث”. كما علق الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد على هذه الرواية بقوله: “رواه الطبراني وفيه علوان بن دَاوُدَ البجلي وهو ضعيف وهذا الأثر مما أُنكر عليه”. وروى العقيلي في “الضعفاء الكبير” عن يحيى بن عثمان أنه سمع سعيد بن عفير يقول: “كان علوان بن داود زاقولي من الزواقيل” والزواقيل هم اللصوص.
وعلى الرغم من ذلك اعتبرت داعش هذه الرواية من المسلمات وذلك لتبرير فعلتهم مما يجعل تنقية التراث من اولى اولويات اصلاح الخطاب الدعوى ولا يختلف اثنان ان المنوط بالقيام بهذا الواجب فى هو الازهر الشريف وذلك لانه هو المؤسسة الرسمية وايضا لانه يملك اليات الوسطية التى تمكنه من القيام بعمله على اكمل وجه ففى قانون يحمل رقم 103 لسنة 1961م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التى يشملها نصوصه، ألزم مجمع البحوث الإسلامية وحده بهذه المهمة، حيث أصبح «مجمع البحوث الإسلامية هو الهيئة العليا للبحوث الإسلامية التى تقوم بالدراسة فى كل ما يتصل بهذه البحوث، وتعمل على تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسى والمذهبى، وتجليتها فى جوهرها الأصيل والخالص، وتوسيع نطاق العلم بها لكل مستوى وفى كل بيئة، وبيان الرأى فيما يجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية تتعلق بالعقيدة، وحمل تبعة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة».
العقل المصرى اصبح فى أمس الحاجة الى تفعيل مثل هذه القوانين بخطوات اجرائية جادة و حاسمة لمواجهة الانحرافات فى الخطاب الدعوى ولا يكفى فقط من الازهر ووزارة الاوقاف ان يلعبا دور صائدى الفراشات فى تتبع الاخطاء والرد عليها دون وجود خطوات حقيقية لتجفيف المنابع، فمن غير المعقول أن لا يمر اسبوع دون ان نستمع الى بعض الفتاوى الشاذه التى تخالف اولا صحيح الدين ثم انها تقود الناس الى نفق مظلم بعيدا عن اولوياتهم وليس من المعقول ايضا ان نبيع عقولنا الى اصحاب الاهواء الذين لا يتحملون مسئولياتهم تجاه اوطانهم ولا يقدرون اننا فى ظروف استثنائية.