أفضل المقالات في الصحف العربية
فتنة الزمن الجميل!
كل شيء يحصل أمامنا وحولنا هذه الأيام وغيرها «مدون بين دفات كتب التاريخ»، وهذا له تفسير سهل جدا، وهو أن كل ما يحدث قد سبق حصوله من قبل، ولأننا لا نقرأ ولا نطلع على التجارب السابقة فإننا نبقى بالتالي دوما «مصدومين» و«مذهولين» من هول المفاجأة.
بل لا نتمعن في نص الآية الشريفة التي تقول «أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون»، بل إن هناك مقولة بليغة وشديدة الأهمية لكارل ماركس يقول فيها «التاريخ يعيد نفسه.. المرة الأولى على شكل مأساة والثانية على شكل مهزلة»، وهناك مقولة أخرى تستحق الذكر للمفكر الغربي جورج سانتيانا قال فيها «الذين لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم بأن يكرروه»، وبالتالي نتذكر المقولة التي يتغنى بها كل أحد أن «الزمن الجميل ولى» وأن «روايح الزمن الجميل لن تعود».. وغيرها.
وتكمن معضلة الناس الذين يندبون حظهم ويقيمون سرادق العزاء على الزمن الجميل ويلعنون الحاضر وأيامه أنهم لم يطلعوا على كتب الماضي ولم يتمعنوا في قول المتنبي: «صحب الناس قبلنا ذا الزمانا.. وعناهم من أمره ما عنانا». لو كان هناك شيء من الإنصاف والعدل والتوازن في القول لقال هؤلاء الهائمون في سراب الزمن الجميل إن كل الأوقات وكل الأزمنة حافلة ومليئة بالقبيح والمخجل.. هذه هي سُنة الحياة وهكذا خلقها الله، وهذا قضاء الله وما كتب لنا أن نواجهه أو نكابده، بل وربما كان الزمن الذي نعيش فيه أفضل لأننا بتنا نواجه الأمور ونتجرأ على الحوار فيها بدلا من الهروب من المواجهة أو دفن الرؤوس في الرمال.
هناك حماية بل وتقديس للحديث في «الماضي» أو «الزمن الجميل» أو «أهل أول الطيبين»، بل إن هناك من الناس من يعادونك ويهاجمونك عندما تهاجم أو تنتقد أكذوبة وأسطورة الزمن الجميل، ويتعاملون معك بالتالي في منتهى الجفاف والفظاظة، لأن مجرد وجود فكرة الزمن الجميل لديهم هو مسألة أشبه بالمخدر الكلي الذي يريحهم من التفكير ويؤكد لهم ذهنيا على أقل تقدير أن ما كان ممكنا قديما يمكن أن يعود مرة أخرى، فهو يعطيهم المبرر والحجة في الاستمرار في الندب والنحيب والعويل دون أن يفعلوا أي شيء لتغيير واقعهم المرير، ناهيك عن فكرة التخطيط للمستقبل خصوصا أن تكلفة اليأس هي أرخص بكثير جدا من تكلفة الأمل.
الأمة المفتونة «فقط وحصريا» بماضيها لا يمكن أن ترى أي خير في واقعها وحاضرها، وبالتالي لا يمكن أن تسهم في صناعة المستقبل وبنائه، لأن السير بالسيارة مع الاعتماد فقط على المرآة الخلفية كوسيلة مساعدة مساندة للتحكم لا يمكن إلا أن يؤدي إلى خلل في الطريق والضياع، إذا لم نقل حتى التسبب في حادثة مؤلمة. كل الأزمنة فيها الخطايا والمحاسن والذنوب والفضائل، فهي أزمنة لم يحي فيها ملائكة، ولم يكن فيها إلا البشر يفكرون ويتفكرون ويحاولون ويجتهدون فيصيبون ويخطئون، هم رجال وغيرهم رجال.
متمعن أمين ومنصف وصادق وموضوعي في قراءة التاريخ بكل أشكاله ودفاته سيفكر مليا ألف مرة قبل أن يترحم على الأيام الخوالي والزمن الجميل الذي مضى، فهي عادة بشرية وليست بالضرورة أن تكون دقيقة وصادقة ومحقة، وبينما هناك من يحذر وينذر خوفا وقلقا بأن هناك مؤشرات وعلامات خطيرة على أننا «نعود للوراء» و«أننا نتخلف»، نجد من يهلل ويكبر ويرحب ويفرح بأن ذلك يحدث لأنه يراه «خيرا عظيما» و«عودة للصواب»، وهذا لعمري ما هو إلا أكذوبة ووهم سوق لنا حتى صدقناه.
لن ينفعنا الندب والنحيب على ما مضى، ولن يصنع حاضرا جميلا ومستقبلا واعدا إلا نحن إذا شئنا واستيقظنا من فتنة الزمن الجميل الذي مضى.