آراء حرة

07:20 صباحًا EET

عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب: وطن بلا حدود

قرب أسلاك صدئة، وقف خالد كعود خيزران في مهب القنص، متكئا على بندقية قديمة لم تمسها من قبل يد مقاتل. كانت عيناه ذاهلتين تحدقان في البعيد.

وكان يدرك، بحسه القروي الساذج، أن العاصفة تختبئ خلف جدر الصمت، وأن الحية الرقطاء قادرة على قلب الطاولة عند الحدود متى شاءت وكيف شاءت. وكان يعرف أن البندقية التي تيبست تحت إبطه لن تسمن ولن تغني من شهادة، وأن الرصاصات التي تسلمها منذ أربعة وثلاثين شهرا ربما لا تنفجر إن أراد أن يختبرها، لكنه كان يمني النفس بخروج آمن من بقعة لاهبة عند حدود التماس.

“كلها شهرين” قال خالد في نفسه حين رفض الرقيب منحه إجازة مستحقة، كان يريد أن يسأله أين يدير وجهه عند الحراسة، ومن أين تأتي الطلقة الغادرة، لكنه تحامل على وعيه هذه المرة كذلك، وأدار كعبيه، وانصرف حاملا أثقالا فوق أثقاله، ليمارس روتينه الصباحي. الركض حول سارية العلم بعد رفع أصابع كفه المشدودة فوق حاجبه الأيمن والهتاف، ثم كوبا من الشاي المعتق، وكسرة من الخبز الجاف .. ثم استراحة قهرية فوق سرير حديدي ذي صرير.

أحس خالد أن غرفته الضيقة لم تعد تتسع لأحلامه المهيضة، فانتعل حذاء خشبيا يشبه حذاء مسحراتي الزمن الجميل، وتنقل بين العنابر يبحث عن مأمون. ومأمون هذا لمن لا يعرفه، صاحب بالجنب، وصديق بالجوار. لطالما شهدت قرية الخطارة بجنوب قنا مغامراتهما الصبيانية وأسمارهما. “بلغ سلامي إلى أمي، وأقرئ فاطمة مني الغرام، وأخبرهما أنني سأراهما بعد ست حراسات باردة.” ثم أدار وجهه، وانصرف.

وحين بدأ الميت ينسلخ من الحي، انصرف خالد نحو أسلاكه من جديد وهو يجرجر بيادته وكعب بندقيته في رتابة غير معهودة. وحين وقف أمام الأسلاك القديمة، أخذ يتأمل عقدها، وكأنها يراها لأول مرة. كانت الحدود الشائكة مغطاة بالصدأ والتراب، وكأن تاريخا من الهدوء قد مر على سيناء. ثم نظر أخرى، فتخيل فخذ جندي ينز دما مصلوبا فوق جدار الهلام، حوقل خالد، وأدار وجهه. “ترى، لماذا يتوقف التاريخ عند الأسلاك، وعند الحدود، بينما تمتلئ بطون المدن بالصخب والدماء؟” “ولماذا نحمى حدودا باردة كالثلج، بينما تأتينا الطلقات دوما من الخلف؟”، وقبل أن يسهب خالد في خيالاته، وقع انفجار مدو أسقط   خالد وبندقيته أرضا، ونظر العريف خلف ظهره، فرأى المعسكر يحترق عن بكرة أعمدته.

نهض خالد بسرعة، وأدار السلاح في يمينه، وهرول نحو بقايا رفاقه وأمتعته، فرأي قطعا من اللحم تتطاير في الهواء كرذاذ حزن تحت سماء غاضبة. كان العريف المجند ينظر من سن نملة الدبانة في كل الجهات ليحدد أسفل منتصف أي هدف. وكانت الحدود تضيق حول أقدامه الراجفة، والأفق يضيق، ولم يستطع خالد في زحمة الأسئلة أن يقف فوق أي تل لحقيقة.

فالنيران تشتعل تحت قدميه، والرصاص ينهال من كل الجهات. “لماذا بالله نحرس حدودا في وطن صار كله حدود؟” وعلا نحيبه.

كانت الحدود في رأس خالد حدان: حد الخطيئة، وحد الأسلاك الشاخصة عن مفاصل الوطن. لكنه اليوم يدير عينيه الذاهلتين في كل الجهات، فيرى حدودا لم يكن يراها، وينتظر الغدر من كل فج عميق.  كل شيء كان يهتز حوله .. الرمال والجثث والبنايات المجاورة والتاريخ وصور الأخداف النمطية في ميادين الرماية. وفي لحظة ذهول، أطلق العريف المجند طلقاته في كل الجهات ليكتشف أن بندقيته لم تصدأ، وأن الرصاصات التي اعترتها البلادة دهرا قادرة على القنص. لكن خالد لم يكن ينظر من سن نملة الدبانة هذه المرة، وكان كل حي له هدف.

وفجأة، سقط خالد إلى جوار كرة من اللحم لم يميزها، والتصق خده بدماء حارة. حاول خالد أن يحرك ساقه، فلم يجدها. وفجأة تحولت السماء إلى فقاعات من الغمام ظلت تتكاثر أمام عينيه حتى غطت مساحة وعيه بالكامل قبل أن يسلم العريف المجند رأسه للتراب.

لم يصل مأمون بعد، ولم تقرأ فاطمة رسالة شوق خطها الحبيب، ولم يبلغها وعد أخلفه. ولم تضم أم خالد رفات ولدها إلى صدرها وتبكي بعد. وما زالت بيادة خالد وجزء غير يسير من ساقه اليسرى معلقتان فوق أسلاك لم تعد تمنع متسللا أو تحمى حدودا. وفوق رمال ملتهبة لا تمسك رمالها الدماء، ولا تشبع من بقايا الراحلين، تتناثر أشلاء جنود وقفوا خلف سياج صدئ في انتظار عدو لا يأتي، وأداروا ظهورهم لقذائفه العابرة للتاريخ.  سيحوقل أبو خالد ويلثم العلم الذي يضم ما تبقى من رفات ولده، لكنه سيحتاج حتما إلى من يؤكد له أن ولده لم يكن مدبرا حين استقر رصاص العدو في ظهره، وأنه ظل وفيا للأسلاك الشائكة حتى الموت.

Shaer129@me.com

التعليقات