تحقيقات

12:09 مساءً EET

“البغدادي” صنع فى “أمريكا”

في مقابلة حصرية مع صحيفة «الجارديان» البريطانية يكشف أحد كبار القياديين داخل «داعش» عن تفاصيل تكوين الخلية الإرهابية في السجن العراقي وتحت أنظار القوات الأمريكية، وكيف ساهمت أمريكا في صناعة زعيم التنظيم المتطرف أبو بكر البغدادي، الذي كان مجرد سجين وتحول إلى أخطر زعيم للإرهابيين والمطلوب رقم واحد في العالم.

في صيف العام 2004، تم اقتياد شاب جهادي إلى داخل أسوار سجن بوكا جنوبي العراق، على يد جنود أمريكيين عبر ثلاث بنايات تشع منها الأضواء، ومن ثم عبر دهاليز مليئة بالأسلاك ليصل إلى ساحة مفتوحة، حيث كان عدد من السجناء الذين يرتدون زي السجن ذا الألوان الفاقعة، يقفون ويتأملون بحذر الوافد الجديد.

«استطعت التعرف على بعضهم على الفور»، هذا ما قاله لي عند مقابلته الشهر الماضي. «كنت خائفا من أن يكون سجن بوكا مكانا رهيبا وبقيت أفكر في هذا الأمر طوال الرحلة بالطائرة. ولكنه كان أحسن مما توقعت بكثير عندما وصلت إليه.»

الجهادي أبو أحمد دخل إلى سجن بوكا كشاب في العقد الماضي، لكنه أصبح الآن قياديا في داعش، وقد تدرج في المناصب إلى أن حصل على رتبة رفيعة كسائر أقرانه الذين قضوا السجن معه. قصته لا تختلف كثيرا عن باقي السجناء الذين ألقت عليهم القبض القوات الأمريكية في المدن والقرى العراقية، ثم نقلوهم بالطائرات إلى سجن مجهول في الصحراء، وهو الأمر الذي ساهم في رسم ملامح الإرث المرتبط بالتواجد الأمريكي في العراق.

حسب ما يتذكر أبو أحمد فإن باقي السجناء لم يحتاجوا لوقت طويل لاستقباله بحرارة. 

وكان السجناء يرتعدون خوفا من سجن بوكا، ولكن سرعان ما أدركوا بأنه ليس سيئا للغاية، حيث شكل لهم السجن الذي كان خاضعا لقيادة الجيش الأمريكي فرصة ذهبية منقطعة النظير. «لم يكن باستطاعتنا أن نجتمع بمكان واحد في بغداد أو في أي مكان آخر بهذه الطريقة»، كما قال لي. «كان ذلك الأمر ينطلي على مخاطر جمة. لم نكن في مأمن داخل السجن فحسب، ولكننا كنا داخله على بعد بضعة أمتار من القيادة الرئيسية للقاعدة.»

داخل معتقل بوكا كان اللقاء الأول بين أبو أحمد وأبي بكر البغدادي، الذي أصبح الآن أمير الدولة الإسلامية، والذي يوصف في الوقت الراهن بأخطر زعيم للإرهابيين في العالم. ومنذ البداية، كما قال أبو أحمد، بدا أن باقي السجناء يذعنون له. «وحتى آنذاك كان ينادى بأبي بكر. لكن لا أحد منا كان يعلم بأنه سيصبح في أحد الأيام زعيما.»

كان أبو أحمد عضوا أساسيا ضمن المجموعة الأولى التي شكلت داعش. وقد وجد هذا الأخير نفسه مجبرا على الانضمام إلى المليشيات، بسبب ما كان يرى أبو أحمد وغيره من مساعي الاحتلال الأمريكي لتغيير موازين القوى ومنح السلطة للأغلبية الشيعية على حساب الأقلية السنة المسيطرة. مشاركته منذ البداية في تكوين ما يعرف الآن بـ»داعش» أدت إلى حصوله على مركز رفيع في الخلايا المتمردة التي انتعشت وانتشرت على امتداد الحدود السورية. وينظر العديد من أقرانه إلى كون تهاوي النظام في المنطقة ساهم في إحياء طموحاتهم بالعراق والذي يعتبر هدفا غير مكتمل التحقق، حتى اللحظة التي بدأت فيها الحرب داخل سوريا ووفرت لهم ميدانا جديدا للمعركة.

قبل أبو أحمد التحدث بعد أكثر من سنتين من المشاورات، والتي كشف من خلالها عن بعض الفصول من ماضيه بصفته فاعلا رئيسيا ضمن أكبر شبكة مليشيات بالعراق، كما عبر عن قلقه العميق من انتشار «داعش» وعن نظرتها إلى المنطقة. وقد أعاد أبو أحمد النظر في توجهاته بعد اشتعال الصراعات في العراق وسوريا والأوضاع المضطربة في الشرق الأوسط. إن وحشية الدولة الإسلامية تتزايد بشكل كبير، حسب وجهة نظر أبو أحمد، الذي بدأت مواقفه تتغير مع مرور الوقت، حيث أصبح يعتقد بأن تعاليم القرآن ينبغي أن تخضع للتفسير والتأويل الشرعي بدل قراءتها بشكل حرفي.

وافق أبو أحمد على التحدت مع صحيفة «الجارديان» بعد استيعابه لما تسعى إليه داعش من خراب، وذلك بعد محاولات إقناع مطولة والتي قدم من خلالها معلومات وفيرة عن الزعيم الغامض وعن نشأة الخلية الإرهابية، والتي تعود إلى العام 2004، وهو العام الذي التقى فيه مع أبي بكر البغدادي في سجن بوكا وحتى العام 2011، عندما بدأ العراقيون المتمردون بالانتقال إلى الجبهة السورية.

في البداية، خلال أيام سجن بوكا، كان السجين البغدادي، الذي أصبح اليوم أخطر شخص في العالم ينعزل عن بقية السجناء الذين كانوا يعتبرونه شخصا متحفظا وغامضا. إلا أن سجانيه كانت لديهم نظرة مختلفة عنه، حيث كانوا يرون بأنه شخص يمكن التعويل عليه في فض الاشتباكات بين السجناء. «كان ذلك كله جزءا من التمثيلية التي وقف وراءها»، يقول أبو أحمد. «كنت أحس بأنه يخفي شيئا ما، ذلك الجانب الغامض بداخله الذي كان لا يريد لأحد أن يراه. لقد كان مختلفا عن كل الأمراء الذين كان من السهل التعامل معهم. لقد كان منطويا وبعيدا عنا جميعا.»

ولد البغدادي، وكان اسمه إبراهيم ابن عواد البدري السامرائي في عام 1971 بمدينة سامراء العراقية، وألقي القبض عليه من قبل القوات الأمريكية بالفلوجة في شهر فبراير من العام 2004، بعد مرور بضعة أشهر على قيامه بالمساعدة في تشكيل المليشيات المسماة بـ «جيش أهل السنة والجماعة»، والتي انتشرت بين الجماعات السنية الثائرة حول مدينته.

«ألقي القبض عليه داخل منزل أحد أصدقائه»، حسب الدكتور هشام الهاشمي، المحلل السياسي ومستشار الدولة العراقية حول كيفية التعامل مع «داعش». «حدث ذلك بداخل منزل صديقه نصيف جاسم نصيف. ونقل إلى سجن بوكا ولكن الأمريكيين لم يعرفوا من سيصبح هذا الشخص.» عندما وصل البغدادي إلى سجن بوكا، وعمره يناهز الـ 33 سنة، كانت الحملة التي يقودها السنة ضد الأمريكيين تتخذ منحا تصاعديا وسط وغرب العراق. وتحول الاحتلال الذي جاء تحت ذريعة حرب لتحرير البلاد إلى استعمار طاحن. وأدت الحرب إلى فقدان السنة لراعيهم صدام حسين، وشرعوا في القتال ضد القوات الأمريكية وبعدها وجهوا بنادقهم إلى الأغلبية الشيعية أكبر المستفيدين من الإطاحة بصدام حسين.

تعتبر المليشية الصغيرة التي تزعمها البغدادي واحدة من عشرات المليشيات التي ظهرت بعد تمرد سني واسع، وانضوت عدد منها سريعا تحت راية القاعدة في العراق ومن ثم تحولت إلى الدولة الإسلامية في العراق. كان هؤلاء جذور ما يعرف الآن بـ»داعش» والتي هي الآن تحت قيادة البغدادي وتسيطر على الجزء الغربي ووسط وشرق سوريا، وجلبت الجيش الأمريكي إلى المنطقة الهشة من جديد بعد انسحاب قواته قبل ثلاث سنوات، وتقديمه الوعود بعدم العودة مجددا إلى العراق.

كانت خلية البغدادي إحدى الخلايا المغمورة خلال فترة السجن التي قضاها البغدادي في سجن بوكا، وكان البغدادي من الشخصيات الأقل تأثيرا مقارنة بزعيم المتمردين أبو مصعب الزرقاوي، الذي كان يمثل الرعب الحقيقي في العراق وأوربا وأمريكا. بيد أن البغدادي عرف كيف يبرز شخصيته ويطغى على كل القادة الذين كانوا في بوكا أو في أحياء العراق.

«مع مرور الأيام، أصبح البغدادي العنصر الرئيسي متى ظهر أي مشكل في السجن،» يتذكر أبو أحمد. «لقد سعى ليكون الزعيم داخل السجن. وعندما أستحضر الآن ما كان يحدث، أستطيع أن أقول إنه كان يستخدم أسلوب فرق تسد لتحقيق هدفه، والمتمثل في الحصول على وضع اعتباري. وقد نجح فعليا في ذلك.» بحلول شهر دجنبر 2004، أطلق سراح أبي بكر البغدادي بعدما اعتبر سجانوه أنه لا يشكل أي خطر وتم بناء على ذلك إصدار ترخيص بإخلاء سبيله.

«لقد احترمه الأمريكيون كثيرا» يقول أبو أحمد. «كان باستطاعته زيارة السجناء في المعسكرات الأخرى متى أراد ولكننا لم نكن نستطيع الحصول على الأمر نفسه. في الوقت نفسه، كان يقود حملته خفية عن أنظارهم ويقوم ببناء الدولة الإسلامية. وجود السجن الأمريكي في العراق ساعدنا في تأسيس الدولة الإسلامية. نحن نعتبر بوكا معملا. هو الذي ساعد في نشأتنا وبناء الإيديولوجيا الخاصة بنا.»

حينما شرعت الدولة الإسلامية بالانتشار في المنطقة، تكفل بذلك الأشخاص الذين كانوا في السجون الأمريكية خلال فترة الاحتلال الأمريكي للعراق. وبالإضافة إلى سجن بوكا، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدير معتقل كروبر قرب مطار بغداد الدولي، كما كان هناك سجن أبو غريب في غرب بغداد الذي أقفل بعد مرور 18 شهرا على بداية الحرب. العديد من السجناء الذين أطلق سراحهم وحسب أقوال العديد من المسؤولين الأمريكيين الذين كانوا يديرون عمليات الاعتقال، فإن تلك المعتقلات ساهمت بشكل كبير في انتشار التمرد والعصيان.

«حضرت العديد من الاجتماعات التي قال فيها العديد من الناس إن الأمور تسير على أفضل نحو»، لكن مع مرور الوقت، بدأ القادة الأمريكيون يقتنعون تدريجيا بأنهم «لعبوا دورا هاما في التشجيع على التطرف. لقد كانت لأفعالهم نتائج عكسية. وقد تم استغلالهم من أجل التخطيط والتنظيم لتعيين قادة وشن الحملات»، يقول الخضيري، المساعد الخاص لكل السفراء الأمريكيين الذين خدموا في العراق بين 2003 و2011 وهو أيضا مساعد لثلاثة قادة عسكريين أمريكيين.

أكد أبو أحمد هذا المعطى. «داخل السجن، كان الأمراء يلتقون بشكل دوري. أصبحت علاقتانا جد وثيقة مع الأشخاص الذين سجنا معهم. تعرفنا على قدراتهم ومؤهلاتهم. أصبحنا ندرك جيدا ما الذي يستطيعون القيام به وما يعجزون عن الوصول إليه، وكيف في إمكاننا استغلالهم لتحقيق أي هدف نريد.»

«كان لدينا ما يكفي من الوقت من أجل الاجتماع والتخطيط،» يواصل أبو أحمد كلامه. «شكل السجن المكان الأمثل بالنسبة لنا. اتفقنا على أن نلتقي ببعضنا بعد إطلاق سراحنا وكانت عملية الاتصال سهلة. كتبنا أرقام هواتفنا في الأشرطة الداخلية لملابسنا الداخلية وعندما خرجنا من السجن اتصلنا ببعضنا. كتبت رقم هاتف كل شخص مهم بالنسبة لي على شريط تباني.»

حسب ما وصفه الدكتور هشام الهاشمي، المحلل السياسي المقيم ببغداد، فإن الحكومة العراقية تقدر وجود 17 قائد مهم في الدولة الإسلامية من أصل الـ 25 الذين يديرون المعارك في العراق وسوريا، سبق لهم أن قضوا عقوبة حبسية في أحد السجون الأمريكية بين 2004 و2011. تم نقل بعضهم من السجون الأمريكية إلى السجون العراقية التي تم اقتحامها في السنوات القليلة الماضية وأطلق سراح العديد من القادة الرئيسيين الذين انضموا إلى صفوف الثوار.

كان سجن أبو غريب مسرحا لأكبر عملية اقتحام وأشدها دمارا، إذ تم تهريب أكثر من 500 سجين عند اقتحام السجن في 2013، حيث كان العديد منهم قادة للجهاديين الذين تم اعتقالهم من قبل الأمريكيين، وقد هربوا في يوليوز من تلك السنة بعد أن اقتحمته عناصر الدولة الإسلامية وقامت هذه العناصر بالعملية نفسها بسجن التاجي.

أغلقت الحكومة العراقية سجن أبو غريب في أبريل 2014.

كما تسبب الكشف عن التعذيب داخل سجن أبو غريب في جنوح الكثير من العراقيين نحو التطرف، الذين رأوا بأن التحضر المزعوم للاحتلال الأمريكي لا يختلف كثيرا عن طغيان صدام حسين. وبينما لم يسجل سجن بوكا الكثير من الانتهاكات قبل إغلاقه في العام 2009، فقد كان يعتبره العراقيون رمزا يجسد سياسة غير عادلة، بعدما زج بداخله بالأزواج، والآباء والأولاد (بعضهم لم يكونوا من بين المقاتلين)، بعد حملات عسكرية دورية في الأحياء، أرسلتهم إلى السجن ليقضوا بداخله الشهور والسنوات.

بعد الإفراج عن البغدادي، أفرج أيضا عن أبو أحمد. جلبه أصحابه إلى بيت غرب العاصمة ومن هنالك بدأ مشاركته مع المجاهدين الذي انتقلوا من الصراع ضد الاحتلال إلى حرب دامية ضد العراقيين الشيعة.

انتشرت فرق الموت في بغداد وخاصة في مركز العاصمة وقاموا بقتل عناصر من الشيعة وبدؤوا بتهجير السكان من المناطق التي يسيطرون عليها. تغيرت العاصمة وأصبحت مدينة مختلفة عن تلك التي عرفها أبو أحمد قبل عدة سنوات. ولكن وبمساعدة من أصدقائة ببوكا أصبح من الممكن مراقبة التطورات الجديدة في الحرب الطائفية. لقد عرف أبو أحمد الأجواء التي عاد إليها وأدرك أن الزعماء الذين تعرف عليهم في السجن أعدوا خطة له.

عندما وصل أبو أحمد إلى منزله في غرب بغداد، قام بقطع الشريط الموجود في لباسه الداخلي والذي يضم أرقام زملائه في السجن وبدأ بالاتصال بهم لبدأ العمل. «قام زملائي في السجن بالاتصال ببعضهم البعض وكانت العملية سهلة للبقاء على اتصال،» يبتسم أبو أحمد لأول مرة خلال الحديث معه لحظة تذكره للخطة. «مكنتنا ملابسنا الداخلية من أن نربح الحرب».

كان هدف الزرقاوي إعادة إحياء ما حدث في الحادي عشر من شتنبر لتصعيد الموقف. لقد أراد الوقوف وراء تنفيذ عملية تنقل الحرب إلى قلب العدو، وبالنسبة له يمكن أن يحدث هذا الأمر من خلال استهداف مجلس للقوى الشيعية أو تشكيل رمز ديني. في شهر فبراير 2006، وبعد مرور شهرين كذلك، فجر الزرقاوي ضريح الإمام العسكري في سامراء شرق بغداد. عندها اشتعلت الحرب الأهلية وتحققت طموحات الزرقاوي.

في ذلك الصيف، قتل الجيش الأمريكي الزرقاوي بمساعدة المخابرات الأردنية في ضربة جوية شمالي بغداد. في نهاية 2006، أصبح التنظيم ضعيفا حيث استأصلت جذوره من الأنبار واضمحل وجود عناصره في أنحاء العراق. ولكن حسب ما قال أبو أحمد فقد استغل التنظيم هذا التطور لصالحه، بعدما كشف عن حس براغماتي بموازاة إيديولوجيته المتطرفة. اعتبرت السنوات بين 2008 و2011 فترة استراحة محارب بالنسبة لـ»داعش» وليس هزيمة.

في هذا الوقت، ظهر أبو بكر البغدادي وداع صيته كمساعد أمين للقائد أبو عمر البغدادي، ومساعده الجهادي المصري أبو أيوب المصري. منذ ذلك الحين، يقول أبو أحمد، بدأت الدولة الإسلامية بالاتصال بالعناصر المحسوبة على حزب البعث في النظام السابق، الذين يشاطرونهم الموقف نفسه بأن العدو هم الأمريكيون والحكومة الشيعية التي تسانده.

البوادر الأولى لظهور «داعش» تجسدت مع البعثيين، الذين فقدوا كل شيء بعد الإطاحة بصدام حسين، تحت نفس المبدأ القائل «عدو عدوي هو صديق لي»، ولكن مع بداية العام 2008، أصبحت هذه الاجتماعات تنظم بصفة متكررة، وأضحى يجرى عدد كبير منها في سوريا، حسب ما قاله أبو أحمد ومصادر أخرى.

شكلت الروابط بين سوريا والتمرد السني بالعراق مصدر قلق للمسؤولين الأمريكيين المتواجدين ببغداد، والحكومة العراقية. وكان الجميع على اقتناع بأن الرئيس السوري بشار الأسد فتح الأبواب للجهاديين وسمح لهم بالدخول عن طريق الجو للأراضي السورية، حيث كان ضباط الجيش يساعدونهم في الوصول إلى الحدود العراقية. «كل الأجانب الذين تعرفت إليهم دخلوا العراق عبر هذه الطريقة. هذا الأمر لا يخفى على أحد»، يقول أبو أحمد.

انطلاقا من العام 2008، وحينما بدأ الجيش الأمريكي بالتفاوض حول نقل السلطة إلى المؤسسات الأمنية العراقية الضعيفة وتمهيد الطريق لخروجهم من العراق، كان هنالك أشخاص قليلون يستطيع الأمريكيون الوثوق بهم في الحكومة العراقية ومن ضمنهم الجنرال حسين علي كمال، مدير المخابرات في وزارة الداخلية. الجنرال، الذي حصل على ثقة الحكومة الشيعية، وكانت إحدى أهم مسؤولياته حماية بغداد من العمليات الإرهابية.

في شهر مارس 2010، ألقت القوات العراقية، بمساعدة من الأمريكيين، القبض على القائد الإسلامي مناف عبد الرحيم الراوي، الذي اتضح، بعد إجراء التحريات، بأنه واحد من القلة الذين لهم علاقة وثيقة ومباشرة بأبي عمر البغدادي. اعترف مناف عبد الرحيم الراوي أمام أسئلة المحققين، وفي خطوة مشتركة قامت أجهزة المخابرات العراقية بالتعاون فيما بينها لإلقاء القبض على أبو عمر البغدادي بعد أن وضعوا جهاز تنصت وجهازا لتعقب المواقع في باقة ورد أرسلت إلى المكان الذي كان يختبئ به.

بعدما جرى التحقق من أن أبو عمر ونائبه، أبو أيوب المصري، يتواجدان بداخل المنزل، تم تنفيذ هجوم على المكان بقيادة الوحدات الأمريكية. قام كلاهما بتفجير نفسه بالاستعانة بسترات تحمل المتفجرات. وجد المحققون عدة رسائل موجهة إلى أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري داخل حاسوب كان بالمنزل. كان يتكفل بنقل وجلب الرسائل المهمة ثلاثة أشخاص فقط، كان من بينهم أبي بكر البغدادي.

«كان أبو بكر هو من يتولى مهمة إرسال وجلب رسائل أبي عمر»، كما أسر بذلك أبو أحمد. «مع مرور الوقت أصبح واحدا من أقرب مساعديه. كانت الرسائل التي تصل أسامة بن لادن يخطها أحياننا هو وكان أول من تمر عبر يديه تلك الرسائل. عندما تمت تصفية أبي عمر، تم تعيين أبي بكر في منصب الزعيم. حينها أصبحت الفترة التي سبقنا أن قضيناها داخل سجن بوكا غاية في الأهمية من جديد.»

شكل مقتل أبو عمر البغدادي وأبو أيوب المصري ضربة موجعة لداعش، بيد أن المراكز الشاغرة التي تركها هؤلاء تمت إعادة ملئها بشكل سريع من قبل السجناء. «عندما اتخذت (الحرب الأهلية) منحنا جديا في سوريا،» يستطرد أبو أحمد، «لم يكن من الصعب كثيرا نقل كل تلك الخبرة إلى منطقة قتال مختلفة. في الوقت الراهن يشغل العراقيون أبرز المناصب داخل الجناح العسكري ومجلس الشورى الخاص بداعش».

مازال أبو أحمد عضوا منتميا لد«اعش»، ويشارك بشكل نشيط في العمليات التي ينفذها التنظيم بالعراق وسوريا. وعلى امتداد المحادثات التي أجريناها معه، كان يقدم نفسه على أنه لا يرغب في البقاء داخل التنظيم، لكنه لا يقوى على تنفيذ مغامرة كهذه.

الانتماء إلى «داعش» يعني امتلاك السلطة، والمال والزوجات والهيبة، وهي كلها عناصر جد مغرية للشباب الذين يريدون القتال لهدف ما. بيد أنها تعني كذلك القتل والانتصار لنظرتهم الخاصة عن العالم، التي لم يعد أبو أحمد مقتنعا بها كثيرا بالمقارنة مع السابق.

أكبر خطأ اقترفته في حياتي هو الانضمام لصفوفهم،» يقول أبو أحمد، لكنه أضاف بأن مغادرته لصفوف التنظيم قد يعني بأنه سيصبح في عداد الموتى، رفقة أفراد عائلته. أما البقاء في صفوف التنظيم وفرض نظرته الوحشية، بالرغم من التبرؤ الجزئي مما يقوم به، فلا يزعج أبو أحمد الذي يرى أن هناك خيارات محدودة متوفرة بالنسبة له.

«هنالك العديد من الأشخاص الذين لا يؤمنون بالإيديولوجيا»، يقول أبو أحمد، في إشارة إلى قياديين منتمين للدولة الإسلامية في العراق والشام مقربين من البغدادي. «هؤلاء هم الأشخاص الذين بدءوا مسيرتهم داخل سجن بوكا، مثلي. ثم بعد ذلك اكتشفوا أن الأمر أكبر من أي واحد منا. لا أحد يمكنه أن يوقف ما يجري الآن. لقد خرجت الأمور عن نطاق السيطرة، ولا أحد يستطيع إيقاف ما يجري، سواء البغدادي أو أي شخص داخل الحلقة المقربة منه.»

التعليقات