مصر الكبرى
غزتنا
زادت المؤتمرات والمظاهرات فى مصر من أجل غزة، وهذا أمر محمود، لولا أن «الزيت لو احتاجه البيت حرم على الجامع»، تعرفت على غزة وعلى رفح عندما كنت ضابط اتصال على منفذ رفح عام ١٩٨٣، حيث كنت مع بعض من زملاء الخدمة ندير منفذ رفح، وأحيانا منفذ طابا أو منفذ البضائع فى العوجة
كنت قادما من قرى محافظة قنا، وأقسم بالله العظيم، أن رفح وغزة كانتا ومازالتا متقدمتين عن القرية أو المركز اللذين ولدت فيهما بما يقرب من عشرين عاما. فى رفح كانت الطرق مرصوفة، وكانت هناك إنارة ولم تكن لدينا لا إنارة ولا طرق مرصوفة.
وقعت عينى على الجوز واللوز والتفاح الأمريكانى لأول مرة فى رفح وفى غزة. كنت أقول لرفاقى أيامها بنوع من الغضب، الناس اللى تحت الاحتلال أحسن حالا منا فى كثير من قرى الصعيد. أعرف أن البعض يرى فى هذا مبالغة، خصوصا بعد أن روَّج الإعلام لتجربة قنا على أنها جنة الصعيد.
رغم أن الحقيقة هى غير ذلك. كل ما تحتاجه لإثبات الحقائق هو أن تذهب كصحفى إلى قنا من حر مالك وليس بدعوة من المحافظة، وتزور قرى قنا لتجد نفسك قد دخلت القرن الثامن عشر. ولكن هناك الكثيرين ممن «يدوشوننا» ليل نهار بتنمية الصعيد. الجميع يعرف أننى لست من هواة المعارضة، ولكننى ضد الكذب. ليس فى الصعيد تنمية ولا يحزنون.
قبل مرحلة ذهابى إلى رفح كنت قد عرفت غزتنا وهى محافظة أسيوط فى جنوب مصر، عندما كانت تسيطر عليها الجماعة الإسلامية بقيادة الدكتور ناجح إبراهيم والمهندس عاصم عبدالماجد، كانت أسيوط فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات هى (غزة) مصر بامتياز، ولم يكن احتجاج الجماعة الإسلامية ليتزايد ويصل إلى درجة العنف التى وصل إليها فى الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات سوى أن معظم الصعيد كان أيامها أقرب من غزة مع فارق بسيط. يحكم غزة الآن إسماعيل هنية وجماعته وهم من أهالى غزة.
أما حكام الصعيد من مأمور مركز الشرطة إلى المحافظ إلى مفتش أمن الدولة، فقد كانوا جميعا من بحرى، ولا يشبهون أهل الصعيد كثيرا، ولا يعرفون عاداته أو تقاليده. كانوا مجموعة من المستشرقين، كالأجانب الذين كانوا يزوروننا.
باستثناء حالة محافظ قنا المرحوم عبد المنصف حزين، ومفتش وحيد لأمن الدولة يدعى بازيد، وكان رجلاً نوبياً طيباً، لم يكن فى الصعيد أى من أبنائه فى السلطة التى تدير شؤونه. كان الصعيد بهذه المقارنة أسوأ من غزة.
ثم زحف حزام الفقر شمالا ومعه الاحتجاج الإسلامى ليصبح حى إمبابة فى منتصف التسعينيات هو (غزة) القاهرة.. الحالة لا تقتصر على مصر وحدها.. فجبال صعدة التى تهمين عليها جماعة بدر الدين الحوثى منذ أكثر من عامين هى (غزة) اليمن.. ومنطقة كيفان فى العاصمة الكويتية اليوم هى مشروع لـ (غزة) الكويت.. الجزائر بأكمله فى التسعينيات كاد الإسلاميون أن يحولوه إلى (غزة) كبرى بنفطه وثرواته وخيراته..
وبكل تأكيد، الجنوب اللبنانى تحت سيطرة «حزب الله» هو (غزة) لبنان.. أما (غزة) قطر فهى بلا شك قناة «الجزيرة». إذن، لكل دولة غزتها.. و«كل واحد يخلى باله من غزته»!.
الغريب فى حالة غزتنا هو أن نواب مجلسى الشعب والشورى عن الصعيد يتصدون لقضايا الأمن القومى وتهديداته من الخارج رغم أنهم قادمون من حزام الفقر المصرى بامتياز.
لماذا يفضل نواب الصعيد وقرى ومراكز الدلتا الفقيرة أن يتباروا فى علو الصوت حول غزة البعيدة ولا يتحدثون عن غزتنا، هل فى الهروب من الواقع نوع من الشياكة لأعضاء مجلسى الشعب والشورى الذين يرون من غير اللائق أن يتحدثوا عن عذاباتنا، ويفضلوا الحديث عن عذابات الآخرين.
رغم أن التنمية فى عهد مبارك حسنت من أوضاع الصعيد شيئا ما، إلا أن الصعيد مازال غزة، وسينتج فى المستقبل إسماعيل هنية فى أسيوط وقنا وسوهاج والمنيا. سيظهر خالد مشعل من تحت أنوف قيادات الحزب الوطنى، ذلك لأن الكثيرين منا تبنوا الكذب والنفاق كبديل لتقديم تقييم الحالة فى الصعيد.
على رئيس الوزراء أن يذهب إلى الصعيد بنفسة ودنما بهرجة، وأتطوع للذهاب معه ليرى بنفسه حجم الفقر فى الصعيد، الصعيد الجوانى، وليس الشارع الوحيد المرصوف فى مدخل كل مدينة أو محافظة. تظاهروا من أجل غزتكم أولا، ودعوا غزات الآخرين لمن هم أولى بها. أعرف أن جملة واحدة تضرب هذا المقال فى مقتل، وهى أن هذا مقال «أمريكانى» يريد أن يلهينا عن التضامن مع غزة..
هذا كذب بواح يهدف إلى تغيير الموضوع. أنا لست ضد التظاهر من أجل غزة كل يوم من قبل القادرين ومن لديهم رفاهة التظاهر من أجل قضايا خارجية، أما من لديه مصيبة محلية فليتظاهر من أجلها. أدعو كل الكذابين أن يذهبوا إلى الصعيد ويستمعوا إلى الناس، وأن يسافروا فى قطاراتهم وليس فى الطائرات الرئاسية ليتعرفوا على غزتنا. فـ«الزيت لو احتاجه البيت حرم على الجامع».