مصر الكبرى

12:00 مساءً EET

الى من يكفّرون الليبرالية التي ساعدتهم.. عودوا إلى رشدكم!

حكمة الشعوب وحيويتها تعكسها أمثالها الشعبية ومواقفها التلقائية، والأمثال تعتبر ينبوعا للحكمة؛ تلخص تجارب الزمان وتأثيرات المكان ودروس الحياة؛ بحلوها ومرها، وينطبق على سلوك المسؤولين في مصر مثل يقول: ‘إللي تحسبه موسى يطلع فرعون’.. أي أن من توقعه الناس أن يكون نبيا صالحا كموسى عليه السلام، يفاجأون به فرعونا متجبرا، وهذا حال كثير من المحسوبين على التحالف الإخواني السلفي الحاكم.

منحهم الشعب ثقته انتظارا للعدل والرحمة والكفاية، وتشوقا لحلول مشاكل أزمنت، وتطلعا لمشروعات تلبي الاحتياحات وتخفف الأزمات، لكنه وجد تكفيرا وظلما وجوعا وانحيازا واضحا لأباطرة المال المشبوه وحيتان الثروة الحرام، وإهمال واضح للمعدمين والفقراء ومتوسطي الحال. ونتج هذا عن خلل في الأولويات، رغم المعلقات الكبرى والأحاديث المطولة في فقه الأولويات ومميزات المراجعات قبل الثورة، وترك ذلك أثرا إيجابيا على كثير من الشباب والشيوخ على حد سواء.وبدا موقف حكم الإسلام السياسي ‘تقية’ أخفت موقفا متربصا، وغطت خلايا نائمة؛ خرجت من كهوفها وجحورها تنشر الذعر والخوف بين المواطنين. وما يقلق شخص مثلي ليس مصير المتنطعين، الذين وصفهم الفقهاء العظام بأنهم يفتون بغير علم ويتشددون بغير مبرر، وهم أصحاب صوت عال وعلم متدن، وكثير منهم ملك ناصية الحكم والقرار، ويخوض في الأعراض ويستبيح الحرمات باسم الدين والشريعة، هؤلاء ليسوا مصدر قلقي؛ حتى لو حكموا ألف عام، ففي النهاية لن يصح إلا الصحيح. والقلق الحقيقي هو على الدين ذاته ومستقبله ومثله العليا، فبحجم إساءة المتنطعين للدين بحجم ما يمكن توقعه من جرأة عليه، وهو يعمل في غير ميدانه ويُوظف في غير مقاصده، وكأنه ما قام إلا للظلم وحرمان الفقراء وقهر المستضعفين وترويع الآمنين، وكل هذا مخالف للمثل العليا وشرع الله، ويتناقض مع كل مبدأ وملة.جاء في القرآن الكريم: ‘الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف’؛ سورة قريش آية 4، وفَضْل الله الذي أوجزته تلك الآية هو تكليف لأتباعه وحملة رسالته لإطعام الجائع وتأمين الخائف، وربطها مفسرون بالنهضة التي لا يمكن لها أن تقوم بغير أمن أو في ظل خوف، ويقول السيد المسيح عليه السلام: ‘اذهب وبع أملاكك واعطي الفقراء فيكون لك كنز في السماء’ انجيل متى 19. 21. 22. وأين هذا من تعصب المتنطعين وتطرفهم برخصة الدين؟ترك المتنطعون كل ما يدعو إليه الدين من مكارم الأخلاق، واستبدلوه بمفاسد الأهواء، وأعملوا التكفير سلاحا طائفيا ومذهبيا ماضيا؛ يمارس من قِبَل فصائل وجماعات محسوبة على الإسلام السياسي بأجنحته وجماعاته المختلفة، يهدرون به دماء مخالفيهم، ويستحلون أموالهم وأعراضهم. في المقابل شعرت القوى المدنية ألا أمل في مستقبل لها تحت حكم التحالف الإخواني السلفي، وهم الذين تصوروا الديمقراطية حلا يقضي على الاحتقان ويحد من الاختناق ويسمح بمشاركة كانت ممنوعة تحت الحكم البائد، والقوى المدنية هي التي وقفت مع مكونات هذا التحالف لتطبيق شعاره عن ‘المشاركة لا المغالبة’، وكان من الممكن أن يكون ذلك فتحا مبينا، يؤهله ومن على شاكلته للتكيف، في مرحلة الانتقال الصعب من الظلام إلى النور، ومن زنازين الحكم وكهوف التخفي إلى فضاء الحياة واتساع الكون. لكنهم حين حكموا وتحكموا أضحوا مثل ‘أهل الكهف’، الذين صدمتهم الحياة بعد سنوات السبات العميق.التزم هذا التحالف بنهج تنظيم القاعدة، وبما يعرف الآن بنهج السلفية الجهادية، الذي على أساسه قُسّم الوطن إلى فسطاطين؛ فسطاط للإيمان والآخر للكفر، يجمع الأول التابعين لمذاهب وطوائف دينية بعينها، ويفرض الرضوخ والإذعان على شعب يصفونه بأنه متدين، فماذا كان يحدث لو لم يكن المصريون متدينين؟، ويتسع فسطاط الكفر لكل المخالفين لهم، ولكل المؤمنين بأن الأوطان والدول الحديثة ملك لأبنائها دون تمييز؛ والدولة الديمقراطية ترفض التمييز تحت أي مبرر.وبالقطع هناك كثير من النقد يوجه للتحالف الإخواني السلفي، بعد الخلل الذي صنعه في المزاج الوطني، وتخليه عن نشر التسامح وعجزه عن تحقيق المساواة وقصوره في إقامة العدل بين المواطنين، أما وقد قام بالعكس فإن الأمر يحتاج مناقشة الأساس الذي قامت عليه العلاقة بين التيارات الإسلامية والقوى الثورية والوطنية. وكان التصور وقتها أن العلاقة استندت على القبول بالديمقراطية السياسية، وأقول السياسية وليس الديمقراطية الاجتماعية، التي غابت تماما بسبب ‘شيطنة’ الاشتراكية، وتكفير دعاة العدالة الاجتماعية وأنصارها، مع أنها غير متناقضة مع المثل العليا التي أتت بها الرسالات السماوية، الرافضة للظلم، وغير المقرة بالاستغلال، والمُنكرة لعبودية البشر للبشر وقصرها على العبودية لله وحده.وأخطر ما وقع فيه ذلك التحالف الإخواني السلفي هو استجابته لثنائية الاستقطاب والتصنيف، التي صُدّرت إلى ثقافتنا من الغرب، وللأسف استقرت في وجدان تيارات دينية ومدنية عدة، بتأثير التجهيل المتعمد وبتشويه الوعي الوطني والقومي والاجتماعي، وذلك كي يعود المجتمع إلى سيرته الأولى؛ في بدائيتها وخشونتها، وحصرت نفسها في جب المذهب وجيتو الطائفة وخيمة العشيرة، هكذا تُرسم خريطة القوى السياسية وتُوزع على هيئة ‘كانتونات’ ومضارب بحجم الطوائف والمذاهب والعشائر ومقاسها، ولافرق يذكر هنا بين موالاة ومعارضة!.هذه الثنائية قامت على المواجهة بين الدولة الدينية المتَوهَّمة والحكم المدني الليبرالي المأمول، وتحولت إلى حرب ‘مقدسة’ بين إيمان وكفر، وليس بين يمين ويسار، أو بين وطنيين وأخرين غير ذلك، وحداثة العهد بالسياسة والحكم جعل التحول من عالم التحريم وتكفير الخروج على الحاكم في السابق إلى القبول بعكسه، وهو تقلب بدا غير مفهوم!.ونعود إلى قضية القبول بالديمقراطية التي تعني لدينا الحرية السياسية، وقد ارتضتها الجموع رغم نقصان ضماناتها الاجتماعية وضوابطها التشريعية لصالح الغالبية العظمى من الشعب وقواه المنتجة؛ من الفلاحين والعمال والمهنيين والحرفيين والتجار وصغار الكسبة والرأسمالية الوطنية؛ الخاضعة للقانون، دون أن تصنعه وتصيغه بما يتناسب ومصالحها ومنافعها. وعلينا أن نعي أن الحرية الناقصة تكتمل بالكفاح والنضال السلمى وبالضغط الجماهيري، وبهذا تأخذ الديمقراطية معناها الحقيقي، والقبول بالليبرالية يعني قبولا بالمذهب الحر في السياسة والاقتصاد والثقافة والعقيدة والمواطنة.وأزعم أن التحالف الإخواني السلفي استغل الآليات الليبرالية حتى أوصلته لسدة الحكم، وعليّ هنا أن أنبه إلى أن تعريف الليبرالية بأنها مذهب تحرري، لا يحمل معنى التحرير الوطني، الذي يستوجب المقاومة والكفاح المسلح ضد المحتل أو العدو الخارجي. وهو مذهب مصمم للتعامل مع متنافسين وخصوم ومختلفين في الأراء والانتماء الحزبي في الداخل، لذا لا يجب أن يكون آلية للعنف والاقتتال، ومن يمارسه يوظفه ضد طبيعته، والعنف يفجر الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي والصدام الاجتماعي.ومعنى التحرير هنا تاريخي حين اعتمدت الليبرالية في بدايتها ونموها واستقرارها على تحرير التجارة كطريق للخلاص من الإقطاع وقيوده، ووضع أول خطوة على طريق المشاركة السياسية.وتجنبا للجدل النظري والتاريخي عن نشأة الليبرالية ووظيفتها في موطنها الأوربي الأم، نبدأ بالقول إنها قامت على عدة أعمدة أهمهما عمودين؛ أحدهما اقتصادي والآخر سياسي، وعن العمود الأول مُنحت الحرية للأسواق، واستُخلصت لها قوانين غرفت بقوانين السوق، وهي بالمناسبة قوانين عشوائية؛ صارت لها قدسية أشبه بقدسية الأديان، ومن الممكن وصفها بـ’دين السوق’ وقوانينه في العرض والطلب، وتحديد القيمة وفق قواعد الوفرة والندرة.والليبرالية الاقتصادية تعتمد على شراء طاقة الفلاح وعرق العامل واستنزاف قدرة المنتج ومهارات الخبير والمبدع بأدنى سعر، ومهمة رجل الأعمال في ظلها جمع المال واكتناز الثروة، وليس إقامة العدل أو تحقيق المساواة، وتملأ البورصة لديه فراغ دور العبادة، مثل المساجد والكنائس وغيرها، ولهذا فإن رجل الأعمال ينتظر نداء البورصة انتظار المسلم للأذان أو المسيحي لأجراس الكنيسة في توقيت كل صلاة. والليبرالية الاقتصادية في بلادنا تقوم على الاستغلال والاحتكار وتمييز المترفين والأغنياء عن بقية الشعب، أما في موطنها الأصلي فإنها تحقق رخاء مواطنيها، على حساب استعمار الشعوب الأخرى وقهرها واستنزاف مواردها وتبديد ثرواتها، وهذا البعد الاقتصادي لليبرالية فوق طاقة الدول الناشئة والفقيرة والمتطلعة إلى التحرر والعدل والتقدم. ومع ذلك فإن بيننا من يتحمس دوما لليبرالية الاقتصادية، وهم في الحقيقة فئات حددت مصلحتها في ذاتها وحصرت منفعتها في حدود ما يعود عليها بالنفع بغض النظر عن فقر المجتمع أو غناه.وتحقيق التقدم والكفاية في بلادنا لا تسمح به الليبرالية الاقتصادية التقليدية، ولا يصلح له قانون السوق بعشوائيته، ولا ابتعاد الدولة عن تحمل مسؤوليتها، أو عدم تدخلها لتنظيم واستغلال الموارد الطبيعية والبشرية بشكل صحيح، والدولة مؤهلة لإحداث التراكم الذي حققته الدول الغنية بقوتها وغزواتها وحروبها واحتكاراتها وهيمنتها على الأسواق ومنابع الطاقة والمواد الخام.ومن ناحية النهج والمضمون لا تستطع بلادنا الأخذ بالليبرالية الاقتصادية، وإذا حدث ذلك فلن تكون أكثر من سوق وبيئة استهلاكية لمنتجات وسلع وبضائع الشركات والاحتكارات العالمية الكبرى، ولا يبقى لها إلا بُعدها السياسي وآلياته ووسائله وامتلاك الإرادة التي تساعد في إحداث التراكم المطلوب لتمويل التنمية، وليس أمامنا إلا الاعتماد على الانتاج الوطني بطابعه الجماعي والفردي والتعاوني، وضبط السوق وتخليصه من عشوائيته وأزماته وخلله، والأخذ بما اصلح على تسميته بـ’السوق الاجتماعي’ بعد أن حقق تقدما مذهلا في الصين وبلاد أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، وقضى على الفقر فيها!ومصر اختارت آليات ووسائل الليبرالية السياسية بعد 25 يناير 2011 من أحزاب وانتخابات وتداول سلطة ودولة االمؤسسات والمساواة أمام القانون والحريات في مجالات الرأي والعقيدة، والتنقل والعمل، مع ضمان الحقوق الجماعية والاجتماعية التي توفرها الديمقراطية، وهذا ما أجمعت عليه كل القوى الثورية والوطنية والدينية.وانقلب التحالف الإخواني السلفي عليها، ونقض العهد وكسر الإلتزام به، والدين نفسه يدين مثل هذه التصرفات، التي تمثل نفاقا في نظره وانتهازية بمنطق السياسة، وإذا ما كانت الأطراف الفاعلة قد ارتضت بآليات الليبرالية ووسائلها الحزبية والسياسية، فمعنى ذلك أن لكل منهم فيها نصيبا، أي أن الرئيس مرسي كانت فيه ليبرالية، وكذا الشيخ بديع المرشد العام، بأنشاء حزب الحرية والعدالة، وعين محمد مرسي رئيسا له، ثم دفع به مرشحا احتياطيا لرئاسة البلاد بديلا عن خيرت الشاطر، ونفس الشئ يقال عن قادة وأعضاء أحزاب النور والأصالة وجماعة الجهاد والجماعة الإسلامية. فقد كانوا ليبراليين بدرجة أو أخرى، فهل كانوا ‘كفارا’؟ بنفس منطقهم الراهن. وعليه نقول: أيها الليبراليون ‘الإسلاميون’ عودوا إلى رشدكم وتعقلوا!!

التعليقات