مصر الكبرى
الكنيسة القبطية وانتخابات الرئاسة
حسنا فعلت الكنيسة القبطية بالأمتناع عن توجيه الأقباط لمرشح رئاسى معين منبهة أن الأقباط سينتخبون من سيدافع عن الدولة المدنية بدون تسمية لأى مرشح، فهذا تصرف سليم تماما يتماشى مع دور المؤسسة الدينية الروحى والوطنى بعيدا عن التدخل المباشر أو غير المباشر فى السياسة ودهاليزها.
ونأمل أن يكون هذا الموقف بداية لإنسحاب الكنيسة تدريجيا من مجال اللغط السياسى الذى أثاره الظهور المتكرر لعدد من رجال الدين الأقباط فى القنوات العامة وإدلائهم بإراء سياسية كانت فى معظمها مؤيدة للنظام السابق ومن بعده للمجلس العسكرى، وبعيدة فى الوقت ذاته عن الرأى الحقيقى للشارع القبطى الذى كان يتوجع مما فعله النظام السابق به واتخاذه للأقباط كمادة للتسلية ولتنفيس غضب الشارع على نظامه ،بما فى ذلك التورط فى الكثير من حوادث العنف ضد الأقباط كجزء من هذا الالهاء والتنفيس.
وهذا الرأى الصائب للكنيسة يأتى فى وقت ينقسم فيه الرأى العام المصرى والقبطى حول عدد من المرشحين، ومن ثم لا توجد شخصية عليها أجماع، وهذا شئ طبيعى فى النظام الديموقراطى… وهذا يقودنا إلى نقطة هامة وهى حول طبيعة دور المؤسسات الدينية فى النظام الديموقراطى.
منذ نشأة الكنيسة القبطية حوالى عام 62 ميلادية وهى قد ولدت مؤسسة وطنية عملاقة التف حولها الشعب، بل وتعتبر أقدم المؤسسات الوطنية فى مصر حاليا، وقد أستمر دورها الوطنى على مدى الفى عام لا تشوبه شائبة أو نقيصة أو عوار. الذى تغير هو علاقة الكنيسة بالسلطة، فقبل غزو العرب لمصر كانت الكنيسة مؤسسة مقاومة للأجنبى تحارب من آجل هويتها وعقيدتها ومذهبها الروحى، ولكن بعد الغزو العربى، وتحت القهر والإضطهاد ووضع الذمية المذل،تقلص دور الكنيسة ليقتصر على  حفظ الايمان وعلى استقلالها فى اختيار رؤسائها الدينيين وفى الاحوال الشخصية فقط ، ولكنها أجبرت على أن تكون تابعة سياسيا للسلطة العربية الإسلامية التى أستمرت على مدى أربعة عشر قرنا من الزمن، ولهذا من يلوم الكنيسة على تأييدها للسلطة لم يدرك هذه المعادلة المجحفة التى اجبرت عليها طوال هذه القرون، وقد حاولت الكنيسة أن تتحرك فى الأطار الوطنى بعيدا عن ضغوط السياسة ولكنها فى معظم المواقف قد أجبرت على أن تتحرك فى أطار السلطة الحاكمة. ولكن فى فترة الليبرالية المصرية قبل الثورة ومع بداية النموذج الديموقراطى المصرى تحررت الكنيسة من قبضة السلطة نسبيا وتحركت بحرية فى مجالها الوطنى فقط تاركة موضوع  العلاقة مع السلطة لما تفرزه الديموقراطية ولاختيارات شعبها وفقا لميولهم السياسية. وفى هذه الفترة تم إنشاء المجلس الملى العام من العلمانيين ليكون جسرا يربط الدولة بالأقباط والاقباط بالكنيسة بعيدا عن مسألة تدخل رجال الدين المباشر أو غير المباشر فى دهاليز السياسة. وهذه هى أهم فؤائد الديموقراطية الليبرالية وهى فصل المؤسسات الدينية عن السياسة. ولما كانت مصر تسعى أو تأمل أن تدخل هذه المرحلة مرة أخرى بعد ثورة 25 يناير فى ظل تعددية حزبية وتعددية فى التيارات وفى المرشحين، فجاء قرار الكنيسة بالوقوف على الحياد كبداية طيبة لدور المؤسسة الدينية فى ظل التحول الديموقراطى.
وهناك مسألة هامة أخرى وهى أن الشباب الذى كان لا يعترض على قداسة البابا شنودة لمكانتة وكاريزمته ودوره وتاريخه ممكن أن يعترض على رجل دين آخر إذا تدخل بتأييد مرشح معين، فبرحيل قداسة البابا أنتهى عصر بأكمله كانت فيه أيادى الدولة ثقيلة على الكنيسة وحاول قداسة البابا بحنكته أن يقلل ضرر هذا التدخل على شعبه عبر التواصل مع السلطة من آجل رفع المعانأة عن الشعب من خلال دور للكنيسة فى ذلك خاصة منذ علام 1985.
و ولكن المؤسف أنه خلال فترة قداسة البابا تدخل بعد الأساقفة والكهنة بطريقة خاطئة، وقد أستمعت أحد هؤلاء الأباء يتحدث على قناة سى تى فى أثناء الأنتخابات البرلمانية بعد الثورة ويقول أن من حق الكنيسة أن ترشد شعبها فى المجال السياسى وأن تجيب على أسئلته فيما يتعلق بالتفضيلات السياسة، ولا يعتبر نيافته أن هذا تدخلا فى السياسة وأنما جزء من دور الكنيسة الوطنى فى نصيحة الشعب، وهذا كلام للأسف يجانبه الصواب، فتوجيه الناخب إلى جهة محددة معينة هو تدخل سافر فى العمل السياسى والحزبى ولا يصح للمؤسسة دينية ولا لرجل دين أن يقوم به مطلقا،لأن ذلك يؤجج الصراع الطائفى والدينى فى المجتمع علاوة على أن خبرة رجل الدين السياسية لا تؤهله لمثل هذا العمل.
وهنا يكون السؤال من يملأ الفراغ الذى ستتركه الكنيسة فيما يتعلق بهذه الأمور؟.
هذ سؤال طبيعى ومنطقى وفى تقديرى أنه فى ظل الفترة الأنتقالية ستتحرك جهات قبطية عديدة سواء منظمات أو أفراد، أغلبها فى الواقع تبحث عن دور وعن مصالحها وعن تطلعات خاصة لبعض الشخصيات فيها ، مع وجود قلة بالطبع تحاول أن تقدم رأيا سياسيا بناء على الخبرة والدراسة، ولكن مع تطور النظام الديموقراطى ستتكون بالتبعية مؤسسات مصرية وقبطية  قوية ومؤهلة وقادرة أن تمارس هذا الدور بكفاءة وبدون شخصنة وبعيدا عن المصالح كما كان يحدث فى الفترة الليبرالية.
لقد حرم النظام السياسى المستبد منذ عام 1952 عن المصريين جميعا العمل السياسى الحقيقى، ولهذا لم تظهر شخصيات سياسية كبيرة ولا مؤسسات سياسية حقيقة ولا مجتمع مدنى فاعل ولا منظمات قبطية او مصرية مؤهلة للعمل السياسى الجاد، ولعل هذا يفسر عدم وجود شخصية سياسية ملهمة  يثق فيها الشعب فى هذه الأنتخابات، فكلهم أبناء ثقافة الأستبداد، ولهذا فأن الجنين المتوقع من هذه الأنتخابات هو جنين مشوه، ولكنه كما قلت يمهد للجنين الحقيقى الذى يتطلع اليه المصريون بعد هذه الفترة الأنتقالية.
مصر تتغير وعلينا جميعا أيضا أن نتغير وعلى الكنيسة أن تعمق هذه البداية الحميدة فى البعد نهائيا عن المجال السياسى بما فى ذلك عدم دعوة أى رسميين أو سياسيين لقداسات الأعياد ومنع التصفيق فى الكنائس المصاحب لهذه المهرجانات السياسية، والاكتفاء بالتهانى لمن يرغب أن يحضر إلى الكنيسة صباح يوم العيد.
إن ما حدث هو بداية طيبة جدا تركت أثرا طيبا عند الجميع وعلينا أن نستمر فهذا هو الطريق الصحيح لنصل إلى كلمة توماس جيفرسون الشهيرة ببناء حائط بين الكنيسة والدولة، لأن هذا الحائط بالتأكيد سيفيد كل من الكنيسة والدولة.