مصر الكبرى
أدباؤنا الكبار على «فيس بوك»
كلهم باتوا على «فيس بوك» من الجاحظ والمتنبي وأبي حيان التوحيدي، وصولا إلى جبران خليل جبران ونزار قباني ومحمود درويش. لكل منهم عشاقه الذين يحرصون على تكريمه أو تذكر كتاباته بالطريقة التي يرونها مناسبة. وإذا كان البعض قد كرم وأجاد فإن البعض الآخر استغل الاسم وتجاهل كل ما كتبه الأديب، مكتفيا منه ببريق شهرته. كيف يعاد إحياء أدبائنا على «فيس بوك»؟ هنا تحقيق يلقي الضوء.
الأدباء العرب حاضرون على مواقع التواصل الاجتماعي. الأحياء منهم والأموات، شعراء وروائيون، قدماء ومحدثون، لكل منهم وجوده، سواء بصفحات خاصة بهم وبأدبهم أو عبر صفحات تعنى بالأدب العربي عموما. تسخير مواقع التواصل لأهداف سياسية أو ثورية، لم يمنع الرواد العرب لهذه المواقع من استخدام الأدب، إما كواحات استراحة من العنف والشغب والدماء، وإما باستلهام مقولة هذا الأديب أو ذاك، ربما لتدعيم فكرة من هنا، أو للتأكيد على فكرة أخرى هناك. وفي كثير من الأحيان يستخدم شاب «فيس بوكي» اسم أديب كبير مع صورته ومقولة جميلة له، لإبراز ثقافته وسعة اطلاعه على ما كتبه الكبار، دون أن يكون بالضرورة كابد أكثر من البحث السريع على «غوغل».
ثمة صفحات لأدباء مشاهير مثل جبران خليل جبران وأدونيس ونجيب محفوظ ومحمد الماغوط، وغيرها لفلاسفة أو مفكرين. والأدب وتحديدا الشعر العربي له على الـ«فيس بوك»، حصة تستحق التوقف عندها. فقد حظيت صفحة تحمل اسم «الأدب العربي» بأربعين ألف معجب على الـ«فيس بوك»، وهي ليست الوحيدة التي تعنى بأدب الضاد. فالصفحات بالعشرات وإن اختلفت التسميات، فهناك «من روائع الأدب العربي» التي لها 22 ألف معجب، و«أروع مختارات الأدب العربي» لها 13 ألف معجب، و«أجمل ما قيل في الأدب العربي» لها 8 آلاف معجب. وإن كانت بعض هذه الصفحات قد استحقت اسمها وعدد معجبيها، فإن غيرها تشوبها الفوضى والعبثية. فقد تستغرب أن صفحة «روائع الأدب العربي» هي لشخص واحد يروج لما يكتب من خلالها، ويصنف كتاباته بأنها من الروائع رغم تواضعها. وصفحة أخرى أطلقت على نفسها اسم «صحيفة الأدب العربي الإلكترونية»، تعطي انطباعا بالجدية وتريد «اكتشاف المواهب ودعمها، وتنمية الثقافة، وتكريم كل من يستحق ودعم العلم والعلماء»، بحسب ما وصفت نفسها. لكن هذه الصفحة ستجد عليها أخبارا لا تمت للأدب والإبداع بصلة، بقدر ما تقدم أخبارا طريفة منقولة عن وكالات الأنباء الأجنبية من «رويترز» و«أ.ف.ب» وغيرها.
فوضى الأدب العربي على الـ«فيس بوك» تبدو طبيعية في عالم جديد، يتسم بالانفتاح الكامل والحرية التي تسمح لكل فرد بفعل ما يشاء، لحظة يرغب ويتمنى. فثمة صفحة تحت مسمى «اتحاد الأدباء والكتاب والمثقفين في العالم العربي» جمعت ثلاثة آلاف شخص، بينهم مشاهير ومرموقون، والهدف منها بحسب ما يقول صاحب الصفحة: «أحاول خلق تجمع ثقافي عربي على النت يساعد في التحرر من الرقابة الحكومية ويتحول إلى منشور سياسي يكشف ما آلت إليه مجتمعاتنا». الاتحاد أسسه شاعر عراقي مقيم في السويد يدعى سعد العيمدي ويحاول أن يجد له ترجمة على الأرض، لكن هذا لا يتجلى حركة حقيقية على الـ«فيس بوك».
كلام غامض وصفحات كثيرة، يبدأها أصحابها ويتركونها، أو يعودون إليها حين تسمح الظروف. لهذا فإن توفيق الحكيم يحظى بصفحات كثيرة وأيضا جبران خليل حبران وطه حسين وعباس محمود العقاد على سبيل المثال لا الحصر. بعضها لم يشارك على حائطه أحد منذ شهور طويلة وبعضها الآخر تعكس صفحته حركة قوية وحماسة من الزائرين. وإذا كان من السهل أن تفهم بأن الكتاب الراحلين قد فتحت صفحاتهم من قبل عشاقهم فإن الأحياء منهم لا تعرف أحيانا إن كانوا يروجون لأنفسهم بنشر مقتطفات من كتاباتهم وجديد إصدارتهم على صفحتهم الخاصة بهم أو أن أحدهم قام بهذا الجهد. هذا هو حال القاص والروائي السوري زكريا تامر الذي له صفحتان على الأقل، إحداهما تقول قارئة متواضعة إنها أنشأتها «لأنامل خطت قصصا دمشقية معشقة بعبق الياسمين»، وإن كانت هذه الصفحة تتيح لزائرها التعرف على كتابات القاص السوري وبعض مؤلفاته، فهي لا تخلو أحيانا من لفتات حول الثورة السورية، حيث لا تزال لوثة السياسة تلحق بكل شيء وحتى ذاك الأدب الرمزي الذي أراد منه تامر الغوص في السياسة دون ذكرها أو الخوض فيها مباشرة. المعجبة بزكريا تامر، لا تنشر مقتطفات من قصصه فقط ولكن أيضا أغلفة كتبه وقراءات نقدية لإصداراته وتتابعه خطوة تلو الخطوة.
اللطيف في أمر متابعة الأدباء على الـ«فيس بوك» أن بمقدورك ملاحظة من منهم لا يزال يمس وجدان القراء رغم رحيله ويعيش معهم، ومن الذي باتت كتاباته بعيدة عن أمزجتهم. ومن اللافت جدا أن تعثر على عشرات الصفحات لجبران خليل جبران، الكثير منها هي صفحات نشيطة للغاية وتتجدد التعليقات عليها وإضافة المواد إليها طوال النهار. هناك صفحة تجد عليها نحو 280 ألف معجب وقد افتتحت بمقولة جبران: «لو جلست على السحابة، لما رأيت الحد الفاصل بين بلاد وبلاد، ولا الحجر الفاصل بين حقل وحقل». وهناك صفحة أخرى لجبران أيضا لها 23 ألف معجب. لكن يبدو أن أقوال جبران المليئة بالحكمة لم تعد وحدها تشفي غليل المشاركين. فأقوال صاحب النبي تتجاور مع أبيات لمحمود درويش وحتى عبارات لابن سينا، أو الكاتب إبراهيم الفقي أو حتى عبارات لشكسبير. هذه الصفحة يعلن محمد عبد الكريم بأنه صاحبها، وتقول صفحته الشخصية إنه يعيش في رام الله. وهذا ليس حال غالبية الصفحات التي يبقى مؤسسها مجهولا.
لكن الأديب العربي الأكثر شعبية، على الأرجح، على الـ«فيس بوك» هو الشاعر نزار قباني، ليس فقط بسبب عدد الصفحات التي تحمل اسمه وعليها عدد كبير جدا من المشاركين والمعجبين، ولكن أيضا لأن الكثير من هذه الصفحات يشهد نشاطا محموما. ولعل شاعرا معاصرا لا يضاهي نزار قباني، لا في عدد العبارات التي يستعيرها «الفيس بوكيون» منه ليضعونها على صفحاتهم، ولا في عدد المشاركين أو المعجبين بصفحاته. فثمة صفحة لها 500 ألف معجب وأخرى 800 ألف معجب وغيرهما لها 700 ألفا آخرين. وكما على صفحات كتاب آخرين فإن نزار قباني يحظى بنشر اختيارات معجبيه وتعليقاتهم التي تتميز بالحرارة وأحيانا الآهات والتنيهدات، مع نشر صور تتناسب وطبيعة القصيدة المختارة. ويصادف أن ينشر أحد المشاركين قصيدة لنزار تتحدث عن أعمى يعشق عمياء، وتكتشف المرأة عماه بعد أن تبرأ وتفتح عينيها، لتتخلى عنه. لكن المشارك «الفيس بوكي» الذي وضع القصيدة يعود ويعتذر عن خطأ ارتكبه، لأن القصيدة لا تعود لنزار، بل و«لا تليق بمستواه الذي هو أعمق من ذلك بكثير».
وإن كان نجيب محفوظ له واحدة من أقدم الصفحات على الـ«فيس بوك» فهو لا يحظى بعدد من المعجبين يضاهي ذلك الذي يحصده نزار قباني، ولا بحيوية تفاعلية شبيهة بتلك التي لصفحات محمود درويش، مما يمكن أن يؤشر إلى أن طبيعة الشعر تتناسب أكثر من الرواية مع طبيعة مواقع التواصل الاجتماعي التي تحتاج إلى عبارات قصيرة، سريعة، مختزلة ومثيرة، يستعيرها الشخص ليلصقها هنا أو يضعها على صفحة حبيبته أو صديقه، ليوصل ما يجول في خاطره.
صفحات الشاعر أبي الطيب المتنبي لا تحمل غالبيتها منه سوى اسمه ورسم له وبعض أشعاره والباقي خليط غريب عجيب. ثمة صفحة لأبي الطيب مليئة بالأدعية والحض على حب الله والتقرب منه، والصلاة على النبي (ص). صفحة أخرى تحمل اسم الشاعر الكبير، لها 14 ألف معجب تحول المشاركون فيها إلى أدباء ذوي نبرة عالية، وكأنما هم يشعرون بالرفعة وبكتابة الشعر العظيم تلقائيا حين تجاور كلماتهم أبيات أبي الطيب. أما صفحة أخرى تحمل اسم «حديقة الجاحظ»، فمليئة بالنكات عن المحششين ومعها إعلانات تجارية وكاريكاتير اجتماعي ساخر. «حديقة الجاحظ» التي قد تظن للوهلة الأولى أنها خصصت لأبي عمرو يدخلها المتطفلون أيضا بكلماتهم وعباراتهم واجتهاداتهم التي لا تشبه في شيء اسم الصفحة، لكن صفحات لها شعبية أقل بمقدورك أن تجد عليها مقتطفات من كتابات هذا العبقري الذي لا يزال أسلوبه يسحر الألباب.
مارك زوكربيرغ مبتكر الـ«فيس بوك»، كان يريد لهذا الموقع الاجتماعي أن يكون صورة موازية لعلاقات البشر الواقعية في كون افتراضي. أي أن يصبح الموقع مرآة لعلاقات البشر وعليها تنعكس شبكة تواصلهم. ولعل شيئا كثيرا مما أراده زوكربيرغ قد تحقق، فعدا الصفحات التي بات الأفراد يخصصونها لأنفسهم، صار لكل شركة ومؤسسة وجمعية ودار نشر ومسرح وسينما وتلفزيون وجريدة صفحة خاصة على هذا الموقع. والأدب العربي ليس إلا جزءا من هذه المنظومة المتكاملة التي انتقلت من عالم الواقع إلى الصفحات الافتراضية. وإذا كان هذا صحيحا فالأدب العربي كما يتجلى على الموقع الاجتماعي الأشهر والأكثر شعبية اليوم، يحبه الناس ويتعلقون به، بقدر ما يشبههم، وينطق بما يجول في خواطرهم. فأن يسمي سوري ثائر صفحة باسم «تنسيقية عباس محمود العقاد»، فلا بد أن الكاتب المصري النهضوي يعني له ما يعني في وجدانياته الثورية والتحررية، وربما أنه ألهمه بفضل عبقرياته الشهيرة.
أكيد أن الشعراء الجدد لهم الجزء الأكبر من الساحة، فهم يروجون لكتبهم وقصائدهم ويضعونها مع صورهم على صفحاتهم وصفحات أصدقائهم، ويتصورون في حفلات توقيع مؤلفاتهم، وكلما شاركوا في أمسية أو كتب عنهم موضوع في جريدة، لينقلوا تحركاتهم لحظة بلحظة لمتابعيهم. وثمة من أنشأ لنفسه صفحة خاصة، وقصف كل من يعرف ولا يعرف بما تجود به قريحته مما يستحق القراءة أو لا يستحقها. وما بين القديم والجديد تعم فوضى عارمة صفحات الأدب على الـ«فيس بوك»، تشبه تماما تلك التي نعيشها في حياتنا الواقعية. لكن الظريف في الأمر ليس على الإطلاق متابعة الأدباء الأحياء، وتعاطيهم الترويجي مع الـ«فيس بوك» الذي بات معتادا ومفهوما، وإنما ما فعله أحياؤنا بأدبائنا الراحلين وكيفية تعاطيهم مع إرثهم، حبا وإجلالا أو تجاهلا وإهمالا.