مصر الكبرى

01:31 مساءً EET

حال مصر مع الاستقطاب الطائفي والمذهبي والانعزالي

 
تعيش مصر تيها وتسير في دروب بعضها متواز وبعضها الآخر متشعب ومتداخل ومتصادم، فقدت نخبتها السياسية والدينية بوصلتها، وكثير منها فقد القدرة على تحديد الأولويات وضبطها، وهذا سر ما نعيشه ونتابعه؛ من ثورة قامت وأجهضت، وحكم مضطرب ومتخبط، ومعارضة متهافتة ومترددة، وكان طبيعيا أن تغيب الأهداف التي رفعتها الثورة، وأريقت من أجلها الدماء واستشهد على مذبحها الأبطال، وأضحى المشهد عبثيا وغير مفهوم.

انشغل السياسيون المحسوبون على الجماعات والتنظيمات المذهبية والطائفية، أو من الفلول والانعزاليين والليبراليين عن الشأن الوطني والمعيشي، وغرقوا في دوامة الدستور، بعد أن أُبعدت قوى الثورة عن مراكز القرار والحكم، وضاقت بها أروقة الحكم ودهاليز السياسة، وبقيت الثورة في الشارع وبين الناس، ويشعر المراقب بانفصال وانفصام واضح بين حراك الشارع الثائر وبين تيبس أجهزة حكم ما زالت على حالها، ومعارضة متهافتة ولم يتغير لا تفكيرها ولا طرائق عملها، وظل الحكم محصورا في دوائر رجال الأعمال ومحظورا على غيرهم، وعاد إليه خوفه التقليدي من الشعب، فاستأنف اعتماده على الدولة البوليسية والحلول الأمنية والتطلع الدائم إلى الخارج طلبا للعون والحماية!.وبعيدا عن اشتباكات وتداخلات وصراعات الحكم والمعارضة تغلي سيناء ويلفها غموض وتعتيم شديد، وتتناقض المواقف منها، ولا يدرك المواطن حجم ما يحدث فيها ولا نوعه، فبجانب معلومات تتحدث عن سيطرة كاملة للسلفيين الجهاديين على شمالها، تقول معلومات أخرى باستمرار العملية ‘نسر’ المستهدفة القضاء على عناصر العنف ومراكز الإرهاب فيها، وتصريحات تؤكد الدور الفاعل للقوات المسلحة وأخرى تنفيه.وتحول الدستور إلى فخ وقع فيه الإسلام السياسي بكافة قواه وجماعاته وفصائله، وأوقع فيه خصومه من القوى المدنية، وانتهى عمدا إلى دوامة أصابت الشعب بالدوار وأفقدته التركيز، في وقت لا يبدو في الأفق ما ينبئ بحل ناجز وقابل للتطبيق على مستوى القضية الوطنية أو الأزمة الاقتصادية أو يخفف من وطأة الظروف المعيشية الصعبة. واستمر الأخذ بنهج الاقتراض والتسول و’الشحاتة’، حتى أن الحكومة الحالية تطلب تبرعات المواطنين لمشروع النهضة المزعوم، ولأول مرة تعجز حكومة عن تدبير تمويل مشروع تدعي أنها صاحبته، وتطلب أموال الفقراء ومتوسطي الحال، بعد أن جعلت رجال الأعمال ‘أبقارا مقدسة’ تعبد ولا تدر حليبا أو تنتج لحما، وبدلا أن يعطي مشروع النهضة الشعب ويذلل مشاكله يأخذ منه ويزيد حياته شقاء.وتقول المعلومات المؤكدة أن الحكومة على وشك القبول بشروط صندوق النقد الدولي وإصراره على الإشراف الكامل على مدخلات ومخرجات موارد الدولة ومصروفاتها، والتدقيق فيها بندا بندا، وأعادت إلى الذاكرة الوطنية شبح ‘صندوق الدين’، ودوره في التمهيد لغزو مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودام احتلال الغزاة إثنين وسبعين عاما، ولولا ثورة يوليو لطال أمد بقائهم واستقرارهم، ولكُنا ندور في حلقة مفرغة شبيهة بما نعيشه الآن، ولبقي الاحتلال إلى أبد الآبدين، ولدينا حكم وحكومة لا يعنيها هذا، وتصر على الاقتراض من الصندوق ورهن مستقبل مصر داخل محبس الاستدانة.على صعيد آخر انتخب المواطنون المسيحيون بطريركا جديدا؛ حمل اسم البابا تاوضروس الثاني، خلفا للبابا الراحل شنودة الثالث، وهي فرصة نقدم فيها التهنئة لقداسته في منصبه الكنسي الرفيع، مع تهنئة موصولة لإخوتنا المسيحيين، وبالمناسبة فإن المرء يستشعر سعة أفقه وقوة شخصيته وثراء معرفته، بجانب ثقافة عامة لفتت الأنظار، وذلك الانطباع جاء من تصريحاته ومقابلاته التي أجراها مع أجهزة الصحافة والإعلام فور جلوسه على الكرسي البابوي، ولفت النظر باهتمامه بالمواطنة في حديثه المرئي إلى الصحفي والإعلامي وائل الإبراشي مساء الأربعاء الماضي، واعتبرها حلا يساوي بين المواطنين بعيدا عن التمييز والإقصاء.إلا أن قضية المواطنة ليست بالسهولة المتوقعة، في ظروف سيطرة تيارات انعزالية وطائفية ومذهبية إسلامية ومسيحية؛ على المؤسسات والسلطات التنفيذية والتشريعية. وكثيرون منهم شغلتهم مشكلة الهوية، وجانب من هذا الانشغال حق يراد به باطل؛ لقيامه على غير أساس من الحقائق الوطنية والعلمية والتاريخية المؤكدة، ومنهم من له موقف غريب من ‘شخصية مصر’ واسمها، ومنتشر بين قوى محسوبة على الإسلام السياسي وعلى الكنيسة، ورغبتها العارمة في تغيير الشخصية الوطنية والهوية القومية للمصريين، وإعادة صياغتها على أوهام وأساطير مطعون فيها تاريخيا وعلميا ودينيا، وتلك الرغبة بدت وكأن هناك عقدة من شخصية مصر وإسمها، وساد تيار يقول بـ’قبطية’ المصريين المسلمين والمسيحيين.ويحتاج المرء إلى وقفة؛ خاصة أن رأس الكنيسة الجديد يؤكد على قضية المواطنة، وجعل منها حدا فاصلا بين الجنوح المذهبي والشطط الانعزالي من جهة والاستقرار الوطني والاجتماعي والسياسي من جهة أخرى، وعلى هذا الصعيد يشعر المرء بخلط متعمد بين المصرية والقبطية حتى يصل الناس إلى مرحلة يعتاد المواطن على القبطية كاسم بديل؛ فيتلاشى اسم مصر الأصلي والأقدم والأعرق، ويتحول إلى تاريخ.وقلنا مرارا أن أصل ‘القبطية’ مشتق من الإسم الذي أطلقه الغزاة اليوناني على مصر، وما زال الغرب يتمسك به ويعمل على نشره، لكونه لا يعترف بأي تاريخ بعد فترة الغزوتين الإغريقية والرومانية، وعليه لا يصح ربط القبطية بالمسيحية، والأولى ألا تُقرن بالإسلام. ولم يكن غريبا على كاتب متحول ومتقلب مثل أحمد عبد المعطي حجازي؛ معروف بقوة علاقته بالأوساط الرسمية الفرنسية؛ لم يكن غريبا عليه أن يكتب مقالا في ‘أهرام’ 31 اكتوبر الماضي بعنوان ‘الأقباط المسيحيون والأقباط المسلمون’ لتعزيز موقفه الانعزالي، وتأكيد مسعاه الدؤوب لطمس شخصية مصر وهويتها القومية، واستبدالها بشخصية غير شخصيتها وهوية ليست لها.وذلك الشاعر المتقلب على أكثر من وجه، مادح لعبد الناصر ومهاجمه، والمنتمي للبعث ثم لاعنه؛ وجد ضالته على دهاليز الانعزالية المعتمة، كحلقة من سلسلة نكوصه المستمر، وبدلا من انحيازه إلى ما يدفع إلى المساواة والتقدم، ودفاعه عما يحمي تماسك الشعب ويؤدي إلى استقرار الوطن؛ يقوم بدور مضاد، يحقق له مصالحه الذاتية ومصالح الدوائر المساندة له.وكما سبق مع الفرعونية في بداية عصر السادات؛ يتكرر مع القبطية، وألقت بظلالها على عصر مبارك كله وحتى الآن. وفي وقت شيوع الفرعونية والعمل على نشرها كبديل للشخصية المصرية وجهنا سؤالا إلى رموزها يقول: هل ينحدر المصريون من سلالة فرعونية؟ وهل كانت الفرعونية عرقا أم نظاما سياسيا اجتماعيا؟، وهل يجوز انتساب شعب إلى نظام سياسي واجتماعي متغير على رأسه ملك يعرف بالفرعون؟ وما العمل إذا عرفنا أن الفراعين لم يكونوا مصريين؟ وكانت هناك أسر فرعونية عدة قد حكمت مصر، ولم تكن مصرية، ووفدت من الشرق والغرب والجنوب؟. خفتت اللهجة وأوشكت على التلاشي إلا من لاعبي كرة القدم، ومن إعلام متعصب وهابط تبثه قنوات منها ما أطلقت على نفسها اسم ‘الفراعين’.وذكرت التوراة مصر خاصة في قصة خروج اليهود منها، وأشارت إليها المسيحية تقديرا لسنوات قضاها المسيح عليه السلام على أرضها، وإذا كانت مصر في اليهودية ملعونة فإنها في المسيحية مقدسة، وهو ما ورد على لسان البابا الجديد في مقابلته التي أشرنا إليها مع الإبراشي. ووصفت المصادر الدينية والتاريخية هاجر أم اسماعيل عليه السلام؛ المعروف بأبي العرب؛ وصفتها بالمصرية، ووصفت ماريا زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام بالقبطية، وأوصى الرسول بأقباط مصر خيرا، وتكلم العرب عن أقباط مصر، ومعنى ذلك أن الأقباط ينسبون إلى مصر وليس العكس! ومنذ متى تحل الترجمة بديلا عن الأصل الراسخ والعريق، ويبدو الأمر استجابة لما لمنطق أوربا وفلسفة الغرب وأوراق اعتماد لدخول ناديه؟ويفخر عموم المصريين دوما بورود مصر في الكتب السماوية، أي أن اسمها سابق على ظهور المسيحية والإسلام، ويتغنى التراث الديني والشعبي بزواج ابراهيم أبو الأنبيا، من هاجر المصرية، ولم تُوصف بهاجر القبطية، فوجودها سبق تداول كلمة ايجبت المشتقة من ‘إيجيبتوس’ اليونانية، وهي ترجمة من الأصل، ومنها اشتق وصف قبط ثم أقباط وقبطية.ذكرت التوراة مصر باسمها العبري ‘مصراييم’، وكثيرا ما يُنسب إلى ‘مصراييم’ أحد أحفاد نوح عليه السلام، وما زالت العبرية تطلقه على منطقة وادي النيل والدلتا. وورد كذلك في الانجيل، ولم ترد فيهما كلمة واحدة عن الأقباط أو إيجبت، ونطرح هذا الموضوع في مرحلة حرجة من تاريخ مصر؛ تعمل فيها قوى عديدة على نشر ثقافة طائفية وعنصرية وانعزالية هدفها حذف مصر من الوجود السياسي والجغرافي والتاريخي، وانتزاع أرضها وتفكيكها، وظهر ذلك جليا بعد ثورة 25 يناير المجيدة، وكان من المفترض أن تكون مصحوبة بثورة ثقافية تحافظ على الشخصية الوطنية والهوية القومية، ولا تتركها هكذا فيتفرق دمها بين قبائل وفصائل انعزالية وطائفية ومذهبية وحزبية.ومن يتذكر فقد نشرنا على هذه الصفحة في سبتمبر/ أيلول الماضي مقالا بعنوان ‘أين ضاعت مصر الوحدوية تاريخيا والموحدة دينيا’ تناولت فيه الفطرة الوحدوية لدى المصريين؛ كأول بلد أقام وحدة بين دولتي الشمال والجنوب، وهي الدولة القائمة حتى الآن، وأول شعب آمن بالتوحيد الديني منذ ما قبل اخناتون بألف عام، حسب ما أشار إليه باحث التاريخ والآثار عكاشة الدالي تعليقا وتصحيحا لما ورد في المقال حول التوحيد الديني، وها هي مصر تتحول إلى ساحة حرب دينية وطائفية، خدمة لمخطاطات التقسيم الانعزالية والطائفية والمذهبية، وكلها تفسد على مصر فطرتها الوحدوية وروحها الاندماجية.كان التيار الانعزالي والطائفي قد تمكن من الكنيسة في عصر البابا شنودة الثالث، ووصل بأحد كبار مساعديه إلى النظر إلى المسلمين على أنهم ‘ضيوف’ وجب عليهم الرحيل، وما قاله ذلك الكنسي هو لب الثقافة الانعزالية والطائفية، وتبادله جماعات متطرفة ومذهبية نفس التوجه، ويرون ألا مجال للحياة المشتركة مع المخالف في الدين والرأي، ولا يعترفون بمبدأ المواطنة.وعلى المجتمع أن ينفض عن كاهله غبار هذه الثقافات المريبة، ويعود لفطرته وطبيعته.وكما تحتاج الكنيسة إلى ثورة على نفسها لتكون بحق كنيسة مصر والمصريين وليست لغيرهم؛تحتاج القوى الطائفية والمذهبية المحسوبة على الإسلام السياسي؛ تحتاج إلى تأهيل عناصرها والمنتمين إليها في التسامح والتراحم والاستقرار النفسي والاجتماعي والولاء للوطن والأرض التي ولدوا وترعرعوا فيها.على الجميع أن يستظلوا براية المواطنة دون تعصب ولا افتئات على الفطرة والتاريخ فنحن مصريون وعرب أولا وأخيرا.
 

التعليقات