مصر الكبرى
د. يحيى مصطفى كامل : مصر .. وما خفي كان أعظم !
لم يخفف قرار القضاء الإداري بتحويل قضية البت في مصير اللجنة التأسيسية للدستور إلى المحكمة الدستورية العليا من حدة التوتر السائد في الشارع السياسي ولا من ترقب شتى الفصائل لنتيجته، فالكل ينتظر ويحلل ويضرب أخماساً في أسداس وينشئ تصوراتٍ عن احتمالات ردود الافعال الواردة وتفاعلاتها وما يمكن أن ينجم عنها وما ستؤدي إليه في نهاية المطاف.
وليس في ذلك ما يدهش إطلاقاً، فلا عهد لأي طرفٍ، شخصاً كان أم فصيلاً، بحالة السيولة التي تعيشها مصر حالياً، ومع فقدان قواعد اللعبة بات من الصعب، بل من شبه المستحيل، الحديث عن أي شيءٍ بأدنى قدرٍ من اليقين ولم يعد هناك مفر من التعامل مع الأحداث السريعة المتوالية التي ينقض بعضها بعضاً سوى وهي ساخنة من الفرن.بيد أنني من خلال مراقبتي للوضع بعينيَّ وعقلي وقرون استشعار وجداني توصلت إلى قناعةٍ مفادها أن كل ذلك الضجيج من تصريحات الساسة ومواقف وصراعات الفصائل وجدال الإعلاميين الذي يغلب عليه العقم وينحدر كثيرٌ منه إلى مستوى الردح الصريح وصخب الجمهور، كل ذلك لا يعكس الواقع بصورة كافية…كأي ظاهرةٍ في الحياة، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، فهناك الظاهر الذي يطفو إلى السطح وهناك ما يجري تحت ذلك، في الأعماق…إن الثورة المصرية لا تشذ عن ذلك، فخلف كل الضجيج الذي أشرت إليه آنفاً هناك تغيراتٌ عميقة أشبه بالزلازل والبراكين الجوفية تحت قشرة الأرض تعصف بقاع المجتمع فتطال كل قطاعاته وشرائحه طولاً وعرضاً.لعل أول ما يلفت الانتباه من تلك المتغيرات هو ذلك الشعور الحاد والحافز بالوقت…ذلك الذي لم يكن له أدنى قيمة في عهد مبارك البليد المترهل فها هو يصبح بحق العامل الأساسي في حسابات الجميع ، وفي ضوئه تتضح الكثير من التصرفات، فالكل يشعر بأنه في سباقٍ معه ليثبت أقدامه في الشارع، مما يفيد بأن الجميع يخشى من شيءٍ ما يمكن أن يحدث يؤدي إلى سيطرة فريقٍ بعينه على الدولة والعودة إلى الوراء وإعادة ترميم وإنتاج ديكتاتورية مبارك ،و الكل(ربما فيما عدا الجيش) يتمنى أن يؤتى ما يكفي من الوقت قبل أن ينقض عليه الآخر.فالجماعة تخشى القوات المسلحة وإما تدرك أو تعلم أن الوقت على المدى القصير (و ربما البعيد…) ليس في صالحها؛ فقد ورطتها سلسلةٌ من التصريحات و القرارات المتخبطة التي سرعان ما تتراجع عنها في وضعٍ محرجٍ يشوبه قدرٌ غير ضئيل من العداء مع المؤسسة العسكرية والقضاء، وإذا ما أضفنا إلى ذلك ما لم يعد سراً من فقدانهم للرؤية والمشروع وانتهاجهم سياسة التمكين بإحلال كوادرهم في هيكل الدولة، كل ذلك مجتمعاً أدى إلى ما نراه اليوم رأي العين من انحسار وتآكل التعاطف معهم من قبل قطاعاتٍ عريضة غير منظمة إخوانياً إلا أن أصواتها كانت حاسمة في فوز الإخوان، وهو ما يفسر حرصهم عل إعداد دستورٍ يمكنهم من الحكر على تطور الدولة المستقبلي وتكبيله بتشريعاتٍ تصب في مصلحتهم…فالوقت، كما قلت، ليس في صالحهم.كما أن القوات المسلحة ترتاب من الجماعة وصرحت عن غضبها إثر ما سُرب عن النية في محاكمة المشير طنطاوي والفريق عنان، الأمر الذي اعتبرته إهانةً متعمدة أضيفت إلى ما شعر به الكثير من الضباط من المرارة من عدم دعوة العديد من قادة حرب أكتوبر إلى العرض العسكري في ذكرى الانتصار والاستعاضة عنهم بطارق الزمر، أحد قتلة السادات…أما الفصائل المدنية فمتفقةٌ على الخوف من الإخوان المسلمين وتتفاوت في موقفها من القوات المسلحة، وهم جميعاً يأملون ويتمنون فسحةً من ‘الوقت’ دون تمرير دستور الإخوان يصيغته الحالية تمكنهم من استكمال بناء تنظيماتهم وقواعدهم الشعبية مراهنين على الوقت أيضاً ليزيد من اضمحلال جماعة الإخوان المسلمين وتحلل نفوذها، ولا يفوتنا هنا أن نذكر بالدور الخطير للفصائل الإسلامية الأخرى التي لا تحظى منا بمثل ما تحظى به الجماعة من اهتمامٍ وتركيز على الرغم من كثرتها العددية وتواجدها في الشارع بشكلٍ ملحوظ ومؤثر، خاصةً وأنني أرى العديد من القوى المدنية تسقط من حسابها احتمال ازدياد شعبية هذه الفصائل خصماً من شعبية الجماعة عوضاً عن أن تصب هذه الأصوات في صالح تلك القوى المدنية…وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فهناك قوى خارجية لها مشاريع ذات توقيتاتٍ حرجة كمسألة المفاعلات النووية الإيرانية والقوى الإقليمية التي تتداخل مصالحها وتمتد أصابعها إلى أحشاء مصر عن طريق تمويلها لفصائل وتنظيماتٍ بعينها (كالسلفيين على سبيل المثال لا الحصر).إن الاستقطاب السياسي في مصر يزداد حدةً وشراسة، وفي ظل انتهاء حالة الغيبوبة والبلادة التي سيطرت على البلد طيلة عهد مبارك، فإن التحولات المزاجية تواكب ذلك الاستقطاب حدةً، فالجمهور الأعرض، ذلك الذي لم يكن مسيساً حتى البارحة بُعث وعيه السياسي من مرقده، فهو يراقب ويحلل ويجادل ويغير قناعاته بسرعة، وعلى ذلك فإن شعبية فصيلٍ ما مهما بلغت من اتساعها (كالإخوان المسلمين مثلاً) قد تغدو تاريخاً منسياً في غضون شهور مما يجعل تغيرات الخريطة السياسية التي تنتج باستمرار عن تفاعلات الفصائل مع بعضها البعض ومع الجمهور وما يرافق ذلك من مشاوراتٍ وتربيطاتٍ وربما تحالفات (لن أقول بوجود مؤامرات…) ترسخ سيولة هذا الواقع وتجعله يفلت من الأصابع كالزئبق…كما تؤكد انفتاحه على كل الاحتمالات ،فلا أحد يستطيع التنبؤ بما سيحدث.إن الشهور القادمة ستكون حاسمةً في تاريخ مصر والعالم من حولها، فما خفي تحت سطح الأحداث أبعد خطراً بمراحل مما هو بادٍ للعيان، ولا أحد يعلم أين سترسو سفينة الثورة المسروقة التي أفلتت من يد أصحابها الشرعيين.
*د. يحيى مصطفى كامل: كاتب مصري زميل الكلية الملكية لأطباء التخدير