مصر الكبرى
المال الإيراني أفسد زيارة امير قطر لغزة
"راحت السكرة وجاءت الفكرة"، كما يقول المثل العربي، لكن السكرة لم تدم طويلا، فطريق عودة الأمير القطري حمد بن خليفة آل ثاني من غزة إلى معبر رفح الحدودي مع مصر كانت طويلة وثقيلة، رغم استعراض القوة الذي أمنته المرافقات المسلحة والتي تجاوزت نحو مئة سيارة يعتليها مسلحو حركة حماس من القوة التنفيذية وكتائب القسام وصور الأمير الضخمة عليها عبارات الترحيب تشبّهه إحداها بالناصر صلاح الدين فاتح بيت المقدس،
فالطرقات خلت من المارة ومن المواطنين المودعين ولم يعرف سبب امتناع أطراف في حماس عن تسهيل إخراج طلبة المدارس والمحازبين مع عشرات آلاف الأعلام القطرية لوداع الأمير، كيف لا وقد بالغ الأمير في كرمه بمنحة إعادة اعمار القطاع وبناء مدارس ومستشفيات والتي وصلت الى أربع مئة مليون دولار أي بزيادة ربع بليون دولار على الالتزام القطري لصندوق الجامعة العربية للإعمار وقرارات قمة شرم الشيخ 2009.
لم يكن الانزعاج الأميري مصدره الساعات الأخيرة للرحلة، وإنما تعداه الى سلسلة من السقطات السياسية والبروتوكولية تحملها طاقم الديوان الاميري الذي أشرف على إعداد برنامج الزيارة تخطيطا وتنفيذا ولحظة بلحظة.
مسألتان ضاعفتا غضب الأمير، الأولى تتصل بالتعديل الذي أدخلته حماس على برنامج الزيارة بإلغائها لقاء جماهيريا حاشدا قبل نصف ساعة عن موعده، والثانية تأكيدات من فريق البروتوكول بأن الرئيس محمود عباس سيرافقه خلال الزيارة التاريخية، فقيادة حركة حماس أبلغت الديوان الأميري أن مفصلين هامين سيشكلان تستّرا على غياب الرئيس محمود عباس وإحراجه أمام الشعب، بداية بمشاركة فصائل منظمة التحرير وممثلي مؤسسات المجتمع المدني الذين أبلغوا موافقتهم على حضور مراسم الاستقبال الذي سيتوج بلقاء جماهيري حاشد في ملعب فلسطين الدولي وأن قرابة ربع مليون مواطن سيهتفون بحياة الأمير ملوحين له بأعلام قطر.
المفاجأة الكبرى تمثلت في تراجع فصائل منظمة التحرير مجتمعة وكل امتداداتها في المؤسسات الاهلية عن حضور الاستقبال بتعليمات واضحة من قياداتها في رام الله، ومسارعة هذه الفصائل الى إصدار بيانات توضح موقفها الذي يرحب بالدعم القطري، لكنه يحذر من تداعياته السياسية لجهة تعزيز الانقسام والمشاركة في المؤامرة باختصار الحقوق الفلسطينية في دويلة تقام في قطاع غزة على حساب دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس على الاراضي المحتلة عام 67.
ورغم استخدام كل وسائط الاتصال الحديثة والتقليدية في مناشدة المواطنين وأبناء حركة حماس الحضور والمشاركة في مهرجان ملعب فلسطين إلا ان الطاقم الأمني والبروتوكولي القطري المتواجد في المكان أبلغ الأمير في الرابعة والنصف أي قبل نصف ساعة عن خطابه أمام الجماهير الموعودة أن عدد الحضور لا يتجاوز المئتين وأنه يوصي بإلغاء المهرجان والاكتفاء بالفقرة الاخيرة من البرنامج بلقاء طلبة الجامعة الاسلامية المحسوبة على حماس.
مصادر سياسية قريبة من الحركة أشارت إلى أن فشل المهرجان لا يعود فقط الى مقاطعة أهالي القطاع الذين ملوا وعود الاعمار ويعرفون أن الاموال ستذهب إلى جيوب قادة حماس وأنصارها، و لا إلى غياب القوى السياسية الرئيسية وإنما إلى خلاف داخلي في حركة حماس.
وقد حمل القيادي الكبير في الحركة محمود الزهار مسؤولية التحريض على إلغاء المهرجان الجماهيري، ونقل عن مقربين من الاجتماع الذي حضره اسماعيل هنية والقيادي خليل الحية ووزير الداخلية في الحكومة المقالة فتحي حماد وغازي حمد وكيل وزارة الخارجية، نقل عنهم القول ان الزهار وجه انتقادات حادة لفكرة الحشد الجماهيري في ملعب فلسطين خاصة بعد مقاطعة القوى السياسية وتحريض أنصارها على عدم المشاركة وأن المهرجان كان سيرتد سلبا على الحركة وجماهيريتها.
وأضاف بحسب المصادر "إذا حشدنا مئات الآلاف لأمير قطر، ماذا سنحشد إذا زارنا محمد مرسي "الرئيس المصري" أو أحمدي نجاد "الرئيس الإيراني"".
ولاحظ مراقبون أن الزهار غاب فعليا عن كل مراحل الزيارة القطرية باستثناء مراسم استقبال معبر رفح الحدودي.
وترجح المصادر الفلسطينية في غزة ان سلبية الزهار ومعه احمد الجعبري القائد العسكري لكتائب القسام، تعود إلى صلاتهما القوية التي تربطهما بالنظام الايراني وتمكنهما من استعادة قسم من الدعم المالي والعسكري بعد توقف على خلفية موقف حماس من الثورة السورية وانسحاب القيادة السياسية من دمشق.
الهفوة السياسية والبروتوكولية الثانية التي أغضبت الأمير وقوضت طموحاته بإنجاز اختراق كبير في ملف القضية الفلسطينية كانت مع الرئيس محمود عباس، حين توصلت الاتصالات الأولية القطرية بمقربين من عباس قبل ثلاثة اسابيع عن الزيارة لقطاع غزة، الى موافقته المبدئية على استقبال الأمير عند معبر رفح الحدودي ومرافقته في جانب من الزيارة، بما في ذلك عقد اجتماع مصالحة فلسطينية برعاية قطرية الأمر الذي اعتبره الديوان ذروة نجاح الدور الاقليمي القطري.
وقبل اسبوع على الزيارة عاد الطاقم القطري لمراجعة رام الله بشأن الترتيبات البروتوكولية ، الا ان مكتب الرئيس عباس طلب مهلة ايام لمراجعة الاطر القيادية في حركة فتح ومنظمة التحرير.
لكن مصادر رسمية فلسطينية أكدت ان الاجتماع كان عاصفا للغاية حيث رفضت قيادة فتح والمنظمة وبتوافق شامل فكرة مرافقة الرئيس للأمير القطري في الزيارة، لأبعادها السياسية الخطرة على مستقبل القضية الفلسطينية.
وقال الرافضون إن الزيارة وفي مثل هذه الظروف وقبيل التوجه الى الامم المتحدة تخدم في العمق المخطط الإسرائيلي لنزع شرعية التمثيل الفلسطيني ووحدانيته، ولم تجد نفعا المكالمة الهاتفية التي أجراها الشيخ حمد آل ثاني مع الرئيس عباس لإقناعه باللقاء في العريش والتوجه الى المعبر لعقد اجتماع مع قيادة حماس والاكتفاء بهذه اللفتة الرمزية.
وأشار الأمير إلى انه سيؤكد في غزة على شرعية تمثيل منظمة التحرير وان قطر ستستمر في جهودها لتحقيق المصالحة الفلسطينية وستعاود الدعم الخاص لميزانية السلطة الفلسطينية.
عباس – وبحسب المصادر – طلب مهلة اضافية حتى يتمكن من اقناع القيادة بتشكيل وفد كبير لاستقبال الأمير ثم غادر رام الله الى عمان، وراجت أنباء عن مغادرة الرئيس عباس في زيارة سرية استمرت ساعات للعاصمة التركية حيث التقى مسؤولين أتراكا كبارا وهو ما نفته المصادر القيادية الفلسطينية. عاد عباس الى رام الله صباح اليوم التالي وقد اتخذ قراره الحاسم، فقد أمر مكتبه بالاتصال بالديوان الاميري القطري وإبلاغ تمنياته للأمير بالتوفيق وان الظروف الداخلية الفلسطينية لا تسمح باستقباله ومرافقته في هذه الزيارة.
في ميزان الربح والخسارة لزيارة الأمير حمد آل ثاني لقطاع غزة، ترتفع فرضية الطموح القطري إلى لعب أدوار اقليمية مقررة مستندة الى فوائضها المالية الهائلة ومن بوابات عدة اهمها القضية الفلسطينية بكل ما تحمله من رمزيات.
فالدوحة لم تتمكن بالمعنى المباشر من استثمار تدخلها المالي والعسكري في دول الربيع العربي أمام مزاحمة عواصم الاقليم الكبرى، واقتصاره على دور الممول وحامل الشيكات، ولم يتحول هذا الدعم الى حوامل وأذرع سياسية وازنة تعلي من شأن الدولة الغنية ونموذجها وإشعاعها الثقافي والسياسي.
لقد ظن خبراء ومستشارو الامير القطري ان الفرصة سانحة في ضوء الموافقة الاسرائيلية الضمنية والأميركية الصريحة على الزيارة لانجاز جملة من الاهداف الكبرى دفعة واحدة، فمن جهة، دفع حماس الى خانة الواقعية السياسية واستمرار التهدئة لأن ليس لديها ما تخسره إذا أعيد الاعمار ودارت عجلة الاقتصاد ورفاهية العيش، وهو ما يخدم مسيرة تحويل غزة الى نواة لدولة فلسطينية، الامر الذي يلتقي مع طموحات جناح كبير في حركة حماس.
كما يوفر التوجه القطري مخرجا للحائط الاسرائيلي الذي يمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، فالمبنى السياسي والثقافي العام في اسرائيل وتحولاته اليمينية والدينية المتطرفة يشطب عمليا المبدأ الذي قامت عليه عملية السلام بقيام دولتين متجاورتين على ارض فلسطين التاريخية.
ولهذا فإن التواطؤ الاسرائيلي والأميركي مع الأهداف القطرية له ما يبرره. لكن مشكلة هذا الدور والطموح في الريادة تصطدم وبحسب محللين بشبكة معقدة من المصالح والأدوار الاقليمية المجاورة لا يمكنها التسليم بالطموحات القطرية لإخراجها من دائرة الفعل الاقليمي.
الكاشف الفعلي لميزان الربح والخسارة في زيارة الشيخ حمد لقطاع غزة لن يطول، وستظهر أولى نتائجه في انتخابات مجلس شورى حركة حماس ورئيس مكتبها السياسي، موسى ابو مرزوق أو اسماعيل هنية، كما سيظهر في لعبة الامم السورية والتقييدات العملية المستجدة للدور القطري رغم كل الضجة الإعلامية، وسط زحمة الفاعلين الاقليميين والدوليين.