مصر الكبرى

10:44 مساءً EET

عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب … مواطنو الأولمب

استقل أحد سكان ولاية فرمونت الأمريكية قطارا إلى مدينة توبيكا بولاية كانساس. ولسوء حظه، جمعته عربة القطار باثنين من أبناء وجهته. وبمجرد انطلاق ثعبان الدخان الأسود في هواء المحطة، تناوب رجلا توبيكا رسم صورة طوباوية لمدينتهم البعيدة.

فقال أحدهما: "سترى عيناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على ذهن سائح." وقال الآخر: "شوارعها ميادين وطرقها حدائق." وعاد الأول ليلتقط طرف الحديث من لسان صاحبه ليقسم أن رجال توبيكا ملائكة ونساؤها حور. وقبل أن تستقر عينا ثالث الثلاثة في محجريهما، باغته الآخر بقوله: "ماء نهرها زلال، وثمارها تلال." وهكذا ظلت أذنا الرجل تجتر وصفا بعد وصف حتى امتلأت عن آخرها بالحروف المنبعجة. كان الرجل ينصت في لهفة أول الأمر. ثم تحولت اللهفة إلى ريبة والريبة إلى امتعاض، فتبرم، فكبت. وفجأة امتلك الرجل زمام حزمه، فباغتهما بحيلة تلزم لسانيهما حدود أسنانهما المتعرجة، فقال زاما شفتيه مباعدا بين حروفه: "لو جعلتم مدينتكم الساحرة ميناء، لحطت على أرضكم كافة السفن العابرة." نظر التوبيكيان نظرة ساخرة إلى نزيل فرمونت، وهز أحدهما رأسه متعجرفا وقال: "ألا تعلم يا هذا بعد الشقة بين كانساس والمحيط؟" قال الرجل: "بلى، ولكن هذا لا يمنع من إقامة ميناء على ضفاف مدينتكم المدهشة." مرة أخرى، التقت أحداق الرجلين لتصب جام سخريتهما فوق جمر جهالة رجل فرمونت الساذج. قال أحدهما ساخرا: "كيف ذلك أيها العبقري؟" فقال الرجل في لهجة جادة: "يمكنكم أن تقوموا بتمديد أنابيب طويلة تصل بين المحيط والمدينة، ثم تقوموا أنتم – أهالي توبيكا – بشفط بعض من ماء المحيط. صدقوني، لو كان أهل توبيكا مثلكما يملكون تلك القدرة الهائلة على النفخ، لتمكنوا من شفط ما يكفي لإقامة أكبر ميناء بأمريكا."لكن الأفواه التي تبعثر الكلمات ذات اليمين وذات الشمال لا تمتلك رفاهية البحث عن الينابيع، فهي دائما مشغولة بحفر أخاديد تخصها وحدها لا توصلها أبدا إلى أي محيط. وهؤلاء الذين يجيدون صناعة الكلمات والتراشق بالأحرف والتأهب الدائم لرصف العبارات العابرة للمنطق، لا يوفرون جهدهم لشق ترع وحفر مصارف لري حياض الوطن الجافة. لا يجد المتنافرون المتلاومون المتشاتمون المتسابون اللاعنون باسم الوطن وقتا كافيا لضخ الماء النقي في شرايينه اليابسة لأنهم مهمومون جدا بحفر المجاري التي تحمل مياه ألسنتهم الآسنة نحو البيوت المجاورة والحقول المجاورة والعقول المجاورة. ففي وقت تذوي شعلة الاستقلال في وطن يترنح كبارجة تئن بما تحمل من جند وذخيرة، ترى المتخاصمين باسم الحق، والمتقاتلين باسم الحرية والعدالة والديمقراطية يتقاتلون كآلهة الأولمب على حقوقهم المقدسة في وطن يهان. فكل المتخاصمين باسم الله والمتصارعين في محبة الوطن يقفون إلى جوار الحق ويدافعون عن الخير والفضيلة. كل حاملي الأسلحة البيضاء وقنابل المولوتوف وحارقي الحافلات ومحطمي المنصات يدافعون عن الوطن. كل القادمين من أقصى اليمين والوافدين من أقصى اليسار يذودون عن حياض الوطن. ما ألطف نسائمك أيها الربيع العربي! لو كان هذا هو الربيع في بلادنا حقا، فكيف بالله يكون الخريف؟ كيف تصنع نبتاتنا الربيعية حين تمحل الأرض ويقل القطر ويندر الزرع ويذبل الثمر؟ ماذا يفعل آلهة الأولمب الصادقون جدا في أنانيتهم، والمفرطون جدا في الدفاع عن مقدساتهم إذا ما وقع الوطن – لا قدر الله – كجذع شجرة يابسة في مهب عدو لا يرحم؟ ماذا يفعل المتقاتلون باسم الحريات والمتحدثون الرسميون باسم الإله حين يقف الوطن أمام علامة تعجب هائلة في مسار الأحداث، وتقف الأمة اللاهية في طابور طويل من المشردين والجوعى يمدون يد الحسرة نحو أيد لا تمتد نحونا بخير؟ صدق جوزيف دي مستر حين قال: "لا أعرف شيئا عما يمكن أن يحتويه قلب الوغد الوضيع، لكنني أعرف جيدا ما تحتويه قلوب الشرفاء. يا لشد ما تحتويه تلك القلوب من فظاعات."
*عبد الرازق أحمد الشاعر: أديب مصري مقيم بالإمارات

التعليقات