كتاب 11

11:56 صباحًا EEST

أمم!

يستمر ترديد وصف «العالم العربي» في الإشارة إلى هذه المنطقة من العالم، ولكني لست متأكدا من دقة هذه العبارة هذه الأيام، وما إذا كانت صلاحية هذه العبارة لا تزال قائمة أم لا، ولعل أكبر تهديد يخيم على المنطقة اليوم هو هويتها وجذور هذه الهوية، فمنذ انهيار دولة الخلافة العثمانية تأسست جمهوريات قُطرية بحدود جغرافية اعتمد فيها وجود عرقي وإثني فيه حدود من التجانس المعقول، وذلك عبر الاتفاقية الشهيرة بين وزيري الخارجية البريطاني والفرنسي، التي عرفت لاحقا باتفاقية سايكس – بيكو الشهيرة، ولكن هويات هذه البلاد باتت في مهب الريح مع ظهور رياح التطرف ورياح العولمة ورياح التشدد.

هناك تجاذب هائل تقع فيه المنطقة في وسطها بشكل خطير وغير مسبوق؛ فتيارات العولمة التي كانت تندفع على المنطقة بشكل هائل يحرك وينزع حدودا فكرية وسياسية كما لم يحصل من قبل، الغاية الأساسية منها تقليل القيود السيادية للدول وذلك لصالح «شكل» جديد للعالم تتفق فيه المصالح المشتركة بقوانين وحدود وأنظمة مختلفة تؤمن الانتقال الحر والطبيعي للأفكار والأموال والبشر بين دول العالم بأقل قدر ممكن من التعقيدات والقيود والشروط، ولكن هذا اصطدم بحالة ذعر تام من فقدان «الهوية».. هذه الحالة تملكت الدول الهشة والرخوة، وهي التي تعي وتدرك أنها غير قادرة على الاندماج في هذا العالم لأنها ستعرض «هويتها» و«تراثها» و«طبيعتها» لخطر الانقراض والضياع، فخرجت جيوش التطرف والتشدد والعنصرية من جحورها، وأصبح الخائفون يعودون إلى الملامح التي يحسنون التعامل معها أكثر، والتي يرتاحون لها.. إلى الدين وإلى المذهب وإلى الطائفة أو إلى القبيلة أو العشيرة أو المنطقة أو المدينة.. إنه الخوف في أضعف وأقل صوره، وهو ما يفسر المشهد المتفجر بقساوة وغرابة شديدة في الشرق الأوسط، فتخرج مجاميع لو حكيت لأحد لاستلقى على ظهره من شدة الضحك، ولكن المشكلة تكمن في أنها كلها حقيقية؛ فالقبائل المتناحرة في ليبيا حقيقة، والإرهاب المجنون بأسماء مختلفة في مصر حقيقة، والأطياف المهووسة في العراق وسوريا من «داعش» و«القاعدة» و«النصرة» و«حزب الله» و«أبو العباس» و«فيلق بدر» وغيرهم كلهم بلا استثناء شركاء في حفلات الدم المقامة في أرجاء المنطقة المختلفة. وكل هذا التاريخ من التعايش والتسامح والحوار وكأنه تبخر واختفى وأصبح الحديث عنه ضربا من الخيال، بل إن «أقلية» مثل «داعش» أصبحت تسيطر على أذهان الناس وتتصرف وكأنها الأكثرية الحاكمة مثلها مثل «حزب الله» في لبنان.

 

وجوه من الحقد والكراهية والغضب صعدت للمشهد الأمامي حتى باتت واجهة الشكل العربي تدعو للعجب والحسرة والسخرية في آن. كل هذا التاريخ «المجيد» لم يشفع للمنطقة أن تنتج فكرا ينجدها من الجنون الذي ينتشر فيها ويجعل شبابها حطبا لها، شباب يضيع مستقبله بين انتحاري تكفيري وانتحاري يلبي نداء، وكلاهما مجرد من التفكير السليم.

 

كما هناك فئة أكبر تهاجر لأي بقعة حول العالم لإحساسها الكبير ويقينها الأكبر أنها فقدت الأمل وأصابها اليأس وأيقنت أن الهجرة هي فرصتها الوحيدة للخروج من منطقة حل عليها الغضب الكبير، فكما أصبحت مناظر المفخخين مألوفة، كذلك باتت مشاهد العشرات من الشباب وهم يغرقون في قوارب حول المتوسط وهم ينشدون الخلاص.

 

لن نقول خذوا العبرة من فرنسا وألمانيا ولا الدول الاسكندنافية، ولكن ها هي سنغافورة الدولة المدنية وهي الدولة المكونة من ملل وأديان وأعراق ومذاهب، في أقل من ثلاثين سنة فقط أصبحت إحدى أهم أيقونات العولمة الحديثة مع حريات العبادة للكل؛ لأنها رفعت الشعار الأهم: «المواطنة حق للكل» وطبقته فعليا.

 

هذا هو الفرق بين أمم ترغب في صناعة المستقبل وأخرى ترغب في البقاء في التاريخ.

التعليقات