مصر الكبرى
مناظرة مصر لا تليق بمصر!
 
المناظرة الرئاسية في مصر لم تكن تاريخية كما روجت لها الإعلانات التجارية المصاحبة لها والتي وصلت أحيانا إلى نصف ساعة متواصلة من الإعلانات، بل كانت بداية عملية ممنهجة لتزوير الوعي قبل أن تبدأ عملية الانتخابات الرئاسية بأسبوعين.
شاهدت المناظرة في القاهرة بين المصريين وتابعت رد فعل بعضهم، وكان هناك نوع من الإجماع، رغم إبهار الأضواء التلفزيونية، أن المناظرة كانت بداية الغش في العملية الانتخابية القادمة. فعلى العكس من الدول الديمقراطية الناضجة مثل بريطانيا وأميركا مثلا والتي تحدد فيها مواعيد المناظرات بصرامة ومكان عقدها ومن يديرها على شاشات يمولها دافع الضرائب، جاءت أول مناظرة مصرية خالية من أي معايير حاكمة، بل وصلت أحيانا إلى أن تكون مخالفة صارخة للعرف الانتخابي في العالم، إذ قامت على المناظرة مؤسسات إعلامية خاصة تسعى من ورائها الربح.
المناظرة كانت برعاية أربع مؤسسات إعلامية تجارية هي «المصري اليوم» و«الشروق» و«تلفزيون دريم» و«أون تي في»، وكلها مؤسسات إعلامية يملكها رجال أعمال لهم مصالح. الديمقراطيات الغربية تجعل التلفزيون العام هو الراعي للمناظرات، وذلك لأنه يمثل المواطن العادي دافع الضرائب، أما في مصر فالتجار هم رعاة المناظرة. وهنا يبدأ خلط الأوراق بين السياسي والتجاري في الحالة المصرية.
ماذا يعني أن تقوم قنوات وصحف خاصة برعاية هذه المناظرة من حيث تأثيرها على طريقة تصويت الناخبين قبل أن تبدأ العملية الانتخابية؟ في وقت يتنافس فيه مرشحون مصريون لمنصب الرئيس يصل عددهم إلى أحد عشر مرشحا جادين، قرر أصحاب الصحف والقنوات التي رعت وبثت المناظرة نيابة عن الوطن أن هناك مرشحين جادين والبقية كومبارس، أي حصرت هذه القنوات والصحف عملية الاختيار والاقتراع على شخصين هما عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح، وأن ما عدا الرجلين إما ليس مرشحا جادا من وجهة نظر هذه القنوات، وإما أن البقية غير مهمة. اثنان من المرشحين، إما عمرو موسى وإما عبد المنعم أبو الفتوح، وحصار الشعب المصري بين خيارين فقط بدلا من أن نضع أمامه كل المرشحين، هو بداية حملة تضليل ملفوفة بحرير إجماع شعبي واستطلاعات رأي كاذبة تقول بتفوق المرشحين، لذا قامت القنوات التجارية ببث المناظرة على الطريقة التي ارتأتها.
ما حدث في مصر نتمنى تجنبه في ليبيا وتونس ودول الربيع العربي لأن ما حدث في مصر هو نوع من صناعة إجماع زائف لدى المصريين على شخصين بعينهما على حساب بقية المرشحين وبرامجهم وأفكارهم.
ليس بمستغرب على رجال الأعمال في مصر أو في غيرها أن يحاولوا التقرب من الرئيس القادم أو صناعته على مقاسهم، ولكن الغريب هو مجاراة اللجنة العليا للانتخابات والقائمين على الحكم وكذلك وسائل الإعلام بأن تسمح بهذا الخرق الواضح لقواعد العدالة بين جميع المرشحين.
غريب أن يحدث هذا في بلد يتحسس طريقه نحو الديمقراطية، وغريب أيضا أن يكون أول القصيدة كفرا أو أول انتخابات بعد الثورة تبدأ بالتضليل.
لم يكن جانب الغش وتضليل الشعب هو الخطأ الوحيد في تلك المناظرة التي لم تكن على الإطلاق تاريخية، بل كانت هناك جوانب أخرى مخالفة للقيم والمعايير الحاكمة لعملية الانتخابات، سواء في ما يخص نوعية المشاركين من المرشحين أو نوعية الصحافيين المشاركين الذين انكشفوا أكثر من انكشاف المرشحين.
بداية كانت المناظرة تعكس سقطة مهنية لأنها كانت مناظرة خالية تماما من الأرقام، أي لم نسمع عن حجم الاقتصاد المصري وقطاعاته المختلفة ونوعيتها، ومن هذه الأرقام كيف للمرشح أن يحسن من أداء أي قطاع من تلك القطاعات.
في الانتخابات الأميركية مثلا تدور معظم الأسئلة حول ميزانية الدولة محسوبة لآخر سنت تعرض على المرشحين ليقولوا لناخبيهم ماذا تعني الأرقام المطروحة وكيف للمرشح أن يقلص الديون المستحقة وينقل البلد من حالة ما تحت الصفر إلى ما فوق الصفر. ولكن جاءت المناظرة خالية الأرقام تماما. لم تذكر أرقام عن السياحة أو حتى عن دخل قناة السويس. لم تذكر أرقام عن عدد سكان مصر ونصيب الفرد من الاقتصاد العام وطريقة تحسين مستوى دخل الفرد. لم تكن هناك أي أسئلة عن عدد الأسرّة في المستشفيات أو عدد الأطباء مقابل كل مواطن. لم يذكر رقم واحد عن موازنة التعليم وعدد المدارس وعدد الطلاب المنخرطين في العملية التعليمية.
أرقام كثيرة كان من الممكن أن تناقش في هذه المناظرة المفترض أنها تاريخية ولكنها جاءت كمناظرة بلا أرقام، مناظرة لم تكن تشبه المناظرات في الدول الديمقراطية بل كانت أشبه بمناظرة على مقهى عام، حيث كانت أسئلتها كلها في العموميات. كانت الأسئلة مثل كرة النساء المعروفة بـ«السوفت بوول»، أو مدرسة نانسي عجرم في الأسئلة السياسية «مدرسة أطبطب وادلع». فهل هذا هو أفضل إنتاج لأربع مؤسسات صحافية مختلفة؟
تحدث عبد المنعم أبو الفتوح مثلا عن تاريخه النضالي وأتبع ذلك بأنه يفضل النظام الرئاسي البرلماني على غرار نظام الحكم الفرنسي دونما إشارة من أي من المذيعين إلى أن النظام البرلماني الرئاسي الفرنسي جاء مع جنرال قوي عليه إجماع وطني مثل الجنرال ديغول، ونضال أبو الفتوح كرئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة في السبعينات أو كونه رئيس اتحاد الأطباء العرب أو حتى نائب المرشد في تنظيم الإخوان، كل ذلك لا يجعل منه ديغول مصر أو مانديلا مصر، فشتان بين نضال ونضال، ولكن كانت المقارنات الكبرى تمر على المذيعين مرور الكرام.
تلك هي النقطة التي قال فيها لويد بنسن في مناظرته كنائب للرئيس ضد دان كويل في انتخابات الرئاسة الأميركية ضد جورج بوش الأب.. قال بنسن المرشح الديمقراطي لنظيره الجمهوري دان كويل عندما تحدث عن جون كيندي: أنا أعرف جون كيندي، جون كيندي كان صديقا لي، وأنت لست جون كيندي. ويمكن في هذا السياق أن أبو الفتوح ليس ديغول، ولكن لم يجد من يصححه.
لم يسأل أي من المذيعين المرشح عمرو موسى ولو سؤالا واحدا محددا بأرقام عن السياسة الخارجية المصرية، فقط كانت الأسئلة عن تراجع الدور المصري في أفريقيا، لم يسأل أحد متى تراجع الدور ومدى حجم التراجع بالأرقام. لقد انحسرت المناظرة في اتهامات: أنت إخوان.. وأنت فلول.
القضية بالنسبة لي ليس ما قيل في المناظرة ولكن الطريقة التي سجنت فيها المناظرة خيارات المصريين في مرشحين اثنين قبل أن يبدأ السباق، وهذا هو الغش من المنبع، أي قبل أن تنطلق صفارة البداية. ومن هنا تكون أول مناظرة تاريخية هي البداية الخطأ لسباق الرئاسة في مصر!