كتاب 11
الزمن السياسي المصري
بحق كان الأسبوع الماضي هو أسبوع مصر في العالم العربي والإقليم. هناك شكليات دالة، وأيضا قضايا عالقة يمكن ملاحظتها. بين الشكليات قضايا تتعدد القراءات حولها. اللافت التنظيم الدقيق في حفل التسليم والتسلم الذي تم في حضور عدد كبير من المسؤولين العرب والأفارقة والأوروبيين، هذا التنظيم سواء كان صباح الأحد الماضي أو في المساء، لا بد قد أعد له منذ فترة وبدقة. ومن الشكليات أيضا طريقة التسليم والتسلم، السلسة وغير المسبوقة بين رئيس مصري مغادر ورئيس قادم، ومهما كان أمر الشكليات التي أظهرت بذاتها قدرة الدولة المصرية على الفعل، هناك قضايا عالقة وقراءات مختلفة لما حدث، قد أوجزها في خمسة محاور:
أولا: ما زالت هناك بعض الشكوك في توصيف ما حدث في بحر عام من التغيير، هل هو انقلاب عسكري كما يرى البعض، أم هو ثورة كما يرى البعض الآخر؟ أميل إلى التوصيف الثاني لعدد من الأسباب، منها أن الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي قد جرى انتخابه تحت سمع وبصر العالم، وبعدد ليس قليلا من الناخبين، وعدد تاريخي ممن ذهب إلى صناديق الانتخاب، الرقم يقارب نصف من يحق لهم الانتخاب في الكشوف الرسمية المصرية، وهو رقم لم يتحقق في معظم الاستحقاقات السياسية المصرية، بل وربما العالمية، فهناك أرقام متواضعة لا ترقى إلى نصف من يحق لهم الانتخاب في كثير من الدول الديمقراطية العريقة، إلا أن المراوحة حول التوصيفين يمكن أن تتلاشى بعد أن تتحقق إنجازات على الأرض، وقد ينتفي توصيف الانقلاب من التداول.
ثانيا: هناك من يرى ويروِّج إلى أن ما حدث هو إعادة للنظام «المباركي القديم»؟ البعض يحاول أن يدفع هذه الفكرة إلى السطح مستعينا ببعض المظاهر، ولكنها فكرة لا تصمد أمام التحليل الموضوعي، من هذا التحليل أن المعروف قطعا أن الدساتير المصرية (المباركية وما قبلها) كانت تحتفظ للرئيس بسلطة نسبية كبيرة، على سبيل المثال كان مبارك يحتفظ كرئيس بـ60 في المائة من السلطات المباشرة، وهذا مثبت في الكثير من الدراسات. في الدستور المعدل 2014 خفضت تلك النسبة لتكون السلطة العامة شراكة بين مؤسسة الرئاسة والبرلمان المنتخب المقبل، هذا ما سوف يصعّب على مؤسسة الرئاسة اتخاذ القرارات لأنها ستكون قرارات شراكة لا قرارات استفراد، وفي نفس الوقت يوزع السلطة ولا يوجزها في أفراد، وهو ربح بيّن للشعب في بناء المؤسسات. كما من الواضح أن النظام المصري الجديد سيكون محدودا بزمن، هو ثماني سنوات على الأكثر والذي لا أرى أنه يمكن تغييره مع بزوغ مجتمع الشبكة التي أشاعت وعيا مختلفا عما ساد إلى وقت قريب، ثم إن خطب الرئيس حتى الآن تظهر رغبة علنية بالفكاك من الماضي، كل الماضي، والانسجام مع مطالب الثورة التي هي ليست سهلة المنال ولكنه يعد بشفافية أن يسعى إليها، فلا يمكن أن تقبل فكرة «العودة إلى الماضي» إلا لمن أراد أن يتعامى عن الحقائق الموضوعية، كما أن النظام الجديد يقرأ المتغيرات العالمية والدولية بوضوح، فلا عودة للاستقطاب العالمي في عالم أصبح رباعي التعدد على الأقل، بعد أن كان أحاديا أو ثنائيا.
ثالثا: الموقف الأميركي والأوروبي حتى الآن تجاه مصر رمادي ومحير في ردود الفعل، فحضور هذا المعسكر في حفلة التسليم والتسلم كان منخفض المستوى، في الوقت الذي حضرت فيه بعثة أوروبية رسمية إبان عملية الانتخابات الأخيرة، وفي الوقت الذي تفتح الدبلوماسية الأوروبية والأميركية أبوابها الأمامية أو الخلفية إلى حكومات أقل ديمقراطية بكثير مما يحقق في مصر، لا أشارك البعض القول إن الولايات المتحدة تحبذ حكم «الإسلام الحركي»، فهذا نوع من التخرص، ولكن ما يمكن تفسيره على سبيل التحليل، التوجه الواضح من الإدارة المصرية الجديدة نحو إنشاء كتلة عربية حرجة، توازن الفوضى الضاربة في الإقليم، هذا الأمر يراه بعض متخذي القرار في الغرب كونه احتمال تهديد لمصالحهم، فمصر بعروبتها يمكن أن تصبح كتلة وازنة، بعد أن ظلت بسبب شيخوخة النظام القديم على الهامش طويلا، فإن أضفنا إلى ذلك البرقية التاريخية في نصها وتوقيتها من الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الإدارة الجديدة، التي كانت لافتة في مضمونها وعباراتها، وعطفنا ذلك على تحرك الإدارة المصرية الجديدة، في السنة الماضية على الأقل، في الإقليم، من اشتراك في المناورات العسكرية والتصريحات التي تقول: «أمن مصر من أمن الخليج» وقد جاءت مع «مسافة السكّة» في خطاب القبول للرئيس السيسي، فإن حصيلة كل ذلك يمكن أن تفسر لنا ذلك التحفظ الغربي، الذي يغطى بشعارات حول حقوق الإنسان وشعارات تشابهها، في الوقت الذي يحدث أكثر من ذلك في الإقليم أمام سمع وبصر الإدارات الغربية وهي تنظر باتجاه آخر، هنا لا يمكن خفض الشكوك تجاه القلق من إحياء، مرة أخرى، الجذور الاجتماعية السياسية الجامعة للعرب التي كانت في حالة كمون ولم يكن موتا.
رابعا: هناك عبارات أسميها العبارات المفتاحية، جاءت على لسان عدلي منصور في خطاب الوداع، وأيضا ترددت على لسان عبد الفتاح السيسي في خطاب القبول، وهي تكاد تكون بالكلمات نفسها تتوجه نحو «ضرورة تجديد الخطاب الديني»، حتى إن السيسي في خطاب القبول أشار إلى عبارة الشيخ محمد عبده التي قالها في بداية القرن العشرين: «أرى في الغرب إسلاما ولا أرى مسلمين، وأرى في الشرق مسلمين ولا أرى إسلاما»، وهي عبارة رددت من قبل الإصلاحيين العرب على مدى عقود، ما يعني أن هاجس «الإصلاح الديني» هو الهاجس بعيد النظر لتغيير مسار هذه الأمة العربية، وخلعها من ثقافة الخرافة والأساطير التي صاحبت الخطاب الديني، محققة بذلك نظاما ثقافيا موازيا غير آبه بالتطور الحضاري والمعرفي. الإصلاح الديني جهد يحتاج إلى تعاون كل القادرين النابهين للتحرك في محاوره، فلن نصلح المستقبل قبل أن نتصالح ونصلح الماضي.
خامسا: يظهر في بعض الإعلام المصري وبعض النخب اتجاهان متناقضان تجاه النظام الجديد، وكلاهما مضر؛ الأول التزلف الشديد، الذي يصل إلى حد المبالغة والتحريض ضد الآخر، والثاني النقد المثالي، صاحب المقاييس المطلقة. قلت كلاهما مضر، لأن الحالة المصرية في حالة تدفق، يعاد تشكيلها، تحتاج إلى المصارحة والعقلانية، أي إلى المقاييس النسبية لا المطلقة.
تلك محاور خمسة تسيطر على الزمن السياسي المصري الذي يشيع الأمل والتفاؤل للخروج من مأزق التخلف والجمود.
آخر الكلام:
جزء كبير مما يحدث في العراق جراء أخطاء ارتكبها الحكم محققا مقولة «إن الغرور هو خطيئة السياسي المفضلة».