كتاب 11
جماعة إخوان الصفا
منذ ألف عام تقريبا، بعد أن فتحت الدولة العباسية الأبواب على مصراعيها للفلسفات اليونانية فى حركة ترجمة نشطة ومزدهرة، ظهرت جماعة إسلامية جديدة من تلك الجماعات التى يصعب حصرها فى تاريخ الدولة الإسلامية والتى تتخذ دائماً منهجاً مخالفاً للتيار العام، وتصل أحياناً إلى حد العداء والمحاربة، وكان من الطبيعى أن تنتهى هذه الجماعات والملل والنحل بأن تقضى عليها الدولة بما تتميز به من قدرات عسكرية هائلة، أما جماعة الصفا وخلان الوفا ـــ يا له من اسم جميل يبعث فى النفس السكينة والاطمئنان ــ فقد تصدت لإنجاز أصعب مهمة فى التاريخ وهى التوفيق بين الدين والفلسفة فى زمن قيل فيه «من تمنطق تزندق» أمر صعب للغاية أن تقيم جسراً بين العقل والقلب وخاصة فى العبادات والمعتقدات الدينية، غير أنهم واصلوا مهمتهم فى شجاعة وكان لابد عند تفعيل هذه الفكرة أن يصلوا إلى فكرة وحدة الأديان وعدم تناقضها مع بعضها البعض مادام جميعها يعمل على رقى البشر وسعادتهم، إنها محاولة قديمة للغاية لرسم طريق للإنسان يصل به إلى الخير الأسمى، ومع ذلك فقد اتهمهم مؤرخون كثيرون بأنهم جماعة باطنية خارجة عن الإسلام تعمل على تدميره، وكأن الإسلام لم يحض الناس على احترام أصحاب الأديان الأخرى وإجلال وتوقير أنبيائهم.
الواقع أن فكرة الباطنية فى حد ذاتها، كانت ما يميز السلوك العام فى تلك الفترة، بمعنى ألا تسمح لأحد أن يعرف حقيقة ما تفكر فيه (اتقاء) لما يمكن أن يحدث لك من أذى أو أضرار، هذه هى ما نسميه التقية.
والواقع أن الباطنية فى الإدارة والتفكير كفيلة بالقضاء على أى تشكيل أو تنظيم بعد فترة من الوقت، وهى أيضاً المسؤولة عن إحساس الناس بالشك فيهم وفى نواياهم إلى الدرجة التى اتهموا فيها بالعمل على القضاء على الإسلام. أنا أعتقد أن جزءاً كبيراً من عداء الناس لهم راجع إلى سمو أفكارهم الإنسانية لدرجة تشعر سواد الناس بالفزع، أريدك أن تقرأ على مهل الجملة التالية لتتبين مدى ما فيها من بلاغة وقدرة على التكثيف والاختصار والقدرة على الذهاب مباشرة وبوضوح إلى الهدف «إن المثل الأعلى للإنسان هو: إنسان عالمى نشأ فى فارس وتدين بالإسلام، واعتنق المذهب الحنفى، وعشق أدب العراق، وصار عبرانياً فى مخبره، مسيحياً فى منهجه شامياً فى نسكه، يونانيا فى علمه، هندياً فى بصيرته، صوفياً فى سيرته، ملكياً فى خلقه، ربانياً فى رأيه، إلهياً فى معارفه»، هى ليست إذن جماعة منغلقة فكرياً على نفسها، بل هى قادرة على رؤية مزايا الآخرين من أصحاب الرؤى الأخرى. هم يعملون على الوصول إلى الإنسان العالمى قبل ألف عام من حديثنا عن العولمة.
أن تكون نفسك أولاً، ولكن لا تجعل منها درعاً يمنع أفكار الآخرين من الوصول إليك، فأنت لست أفضل من الآخرين إلا بمقدار ما تقدم للدنيا من فضل.
كن نفسك.. ولكن اشحن هذه النفس بالرغبة فى أن تكون كل الناس، استمع لكل الألحان ولكن لا تطرب إلا للجميل منها.
نقلاً عن كتاب «قزقزة فى لب الموضوع»