كتاب 11
الإنسان قبل الفنان أحيانا!!
خلال ساعات قليلة أصل إلى مهرجان «كان». هذه هي المرة رقم 23، يبدو وكأنني «مَن ضيّع في المهرجانات عمره». المهرجان ليس أفلاما فقط ولكنه روح وحياة ومواقف ولحظات تأمل، هؤلاء الذين يصعدون سلم قصر المهرجان وتتابعهم العيون والقلوب بحالة من الهوس غير مسبوقة، أؤكد لكم أن درجة التماهي العربية بالنجوم تستطيع أن تضربها وأنت مطمئن في عشرة عند المتفرج الغربي، حيث العشاق لا يعرفون النوم، يطاردون النجوم من الفندق إلى قصر المهرجان والعكس.
النجومية والزمن من التفاصيل التي أرصدها، يكرم المهرجان هذه الدورة بجائزة إنجاز العمر الأيقونة الإيطالية صوفيا لورين، 80 عاما، ولا تزال صوفيا داخل الدائرة لم يتوقف عطاؤها على مدى يتجاوز ستة عقود من الزمان.
هل الفنان يضحي بالإنسان حتى يستمر على القمة؟ مثلا جورج كلوني ظل يحمل لقب أشهر عازب بين النجوم، حتى وقع أخيرا في حب اللبنانية أمل علم الدين، كان كلوني في الماضي يبدو وكأنه لا يعيش إلا فقط من أجل كلوني.
الإبداع أم الحياة؟ سؤال كثيراً ما يتردد في حياة كل المبدعين، لا شك أن الإبداع يمنح حياة بعد الحياة، إلا أن ميريل ستريب مثلا، التي رصع تاريخها الفني بثلاث جوائز أوسكار و17 مرة رشحت، وهو رقم غير مسبوق، سألوها: ما الذي تتمنين أن يكتب على قبرك بعد عمر طويل؟ أجابت: لا أحب أن أرتبط بمجال عملي – تقصد أفلامها وجوائزها – ولكن شخصيتي أكثر الأشياء التي تتحدث عني، ولهذا فأنا أريد تسجيل نفسي في ذاكرة الناس كامرأة، وأحب أن يكتب على قبري هذه الفنانة مثلت أدواراً متعددة كانت بالنسبة لحياتها أدواراً ثانوية.
ميريل لا تريد أن يذكر لها الناس مثلاً فيلما مثل «كرامر ضد كرامر»، تريدهم أن يعتبروا أن كل ما حققته في حياتها من أفلام هو جزء مكمل للصورة، مجرد «رتوش»، أما اللوحة التي تعتز بها فإنها الإنسان، تريد أن تعيش تلك الحياة بكل تفاصيلها كأم وزوجة، المعنى المضمر في ما ذكرته ميريل ستريب هو أن البعض يستغرقه الفن عن معايشة الحياة، ينسى أنه إنسان خلق لكي يعمل ويسعد الآخرين إلا أن عليه أن يعلم أن الفن ليس كل الحياة. بالطبع الناس لا يعنيها في نهاية الأمر هذا الفنان، ما الذي فعله في حياته، تزوج، أنجب، هل اهتم مثلا بتربية أبنائه؟ ما يعيش في ذاكرة الناس هو بالتحديد ما قدمه من إبداع أغنية، فيلم، مسرحية، إلا أنه في مرآة نفسه ينبغي أن يكون إنساناً عليه واجبات مستحقة.
أتذكر مثلا الراحل أحمد زكي كان يقول دائما: «أنا بعيدا عن الكاميرا مجرد شخبطة ع الحيط»، فلم يكن أحمد يكتمل إلا فقط وهو يقف أمام الكاميرا، أحمد حالة خاصة وربما استثنائية، فهو لم يكن يعرف من هو أحمد زكي إلا فقط عندما بتقمص شخصية درامية.
هناك فنانون يقفزون فوق هذا السور مثل أنجلينا جولي، حاضرة دائما في كل القضايا التي تهم العالم مثل المشردين على الحدود من الشعب السوري وقبلها الليبي، هل شاهدتم فنانا عربيا يفعل ذلك؟ نعم، الإنسان خلف الفنان ربما لا يذكره الناس بعد أن تنتهي رحلته مع الحياة، لكن الفنان ينبغي أن يمنح الإنسان بداخله فرصة لكي يعيش الحياة.
الأفلام والندوات والصخب والأضواء والكاميرات هي التي تستحوذ على كل شيء في تلك الرحلة السنوية إلى «كان»، ولكنْ قليل من التأمل يُصلح الرؤية!