كتاب 11
الفسطاط.. هل نقول: وداعا؟
وكأننا حالة شاذة عن الأمم؛ لا علاقة لنا بالعالم من حولنا! يوم نسمع تصريحا من وزير آثار مصر يقول بأنه سيمنح أرض الفسطاط الأثرية لمحافظة القاهرة لتحويلها إلى حديقة عامة.. بعدها تصريح آخر بنفي التصريح السابق (بعد حملة الاستهجان طبعا)، ثم بعد النفي يأتي تأكيد من محافظ القاهرة بوجود خطة لتحويل الفسطاط إلى حديقة بها أشجار وحشائش وورود وزهور، وأن الفسطاط ستتحول من مقلب للقمامة (بنص التصريح) إلى حديقة غناء تدخل البهجة إلى الصدور.
وسؤالي الذي أطرحه هنا: لماذا دائما يصرون على أن يضعونا أمام خيارين أحلاهما مر بطعم العلقم؛ إما حديقة وإما مقلب قمامة؟! أليس من الممكن الحفاظ على الفسطاط كأثر له قيمة تاريخية وثقافية؟ ولمن لا يعرف الفسطاط فهي أول مدينة تنشأ، ليس فقط في مصر وإنما في قارة أفريقيا كلها؛ وضع لبنتها وخطها قائد جيوش المسلمين عمرو بن العاص بأوامر من الفاروق عمرو بن الخطاب بعدما استتب له فتح مصر لتتحقق أمنية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
كان فتح مصر وتأسيس الفسطاط في عام 641 من التقويم الميلادي.
وقد سميت الفسطاط نسبة إلى الفسطاط، أي المعسكر الذي أقامة عمرو بن العاص بجوار حصن بابليون، ويحد المدينة غربا نهر النيل وشرقا صحراء المقطم التي سيطلق عليها بعد ذلك بأزمان صحراء المماليك نسبة إلى دولة المماليك.
وأهمية الفسطاط من الناحية الحضارية، ليس فقط لقدمها الزمني، وإنما لأمر مهم جدا وهو أن الفسطاط في تخطيطها أصبحت نموذجا مصغرا لشبه الجزيرة العربية بكل قبائل العرب المعروفة، وذلك لأن عمرو بن العاص بعد أن بنى المسجد الجامع الذي يعرف إلى اليوم باسم جامع عمرو بن العاص – وهو أيضا أول مسجد في أفريقيا – قام ببناء منزله بالقرب من الجامع ثم أعطى كل قبيلة قطعة من الأرض لتختط لنفسها المساكن.
وسرعان ما عمرت الفسطاط، وطابت الإقامة بها إلى جوار نهر النيل الخيّر والأرض اللينة الطيبة، وبدأ العرب يختلطون بالمصريين، وبات من الواضح أن سمة حضارة وليدة سرعان ما ستقود العالم لقرون كثيرة.
الآن وبعد مضي أكثر من 1400 سنة على إنشاء الفسطاط، نجد أنفسنا بين خيارين: إما حديقة وإما مقلب قمامة، أما خيار الحفاظ على الأثر فليس مطروحا على الإطلاق! قبل حاجتنا إلى الإمكانات، نحتاج إلى ضمير حي يوقف العبث بآثارنا.
يكفينا ما يضيع يوميا من آثار مصرية بوسائل مختلفة عددناها في مقالات سابقة.
كنت في الماضي القريب أحزن لأنه ليست لدينا بعثة آثارية مصرية مدربة تحفر وتكشف عن كنوز الفسطاط مثلما للفرنسيين بعثة هناك.
أما الآن، فكل أملي أن يتركوا الفسطاط في حالها.. أطلال تشتكي ظلم الإنسان لنفسه ولتراثه، لعله يأتي من بعدنا جيل أفضل منا يعيد لمدينة الفسطاط مجدها القديم.. أمامكم صحراء مصر واسعة حولوها إلى حدائق كيفما شئتم، أما الفسطاط فاتركوها كما هي ونعدكم بأننا لن نزعجكم بعد اليوم بمطالب الحفاظ على المناطق الأثرية، لقد تأكدنا بما لا يدع مجالا للشك أن ردم الآثار ورش المياه لزراعة الأشجار هما آخر ما عندكم!