مصر الكبرى

12:11 مساءً EET

لماذا تراجع الفن المصري إلى الوراء ؟

زمن نيللي مظلوم وموسيقى خاتشاتوريان
سعد الصغير صوت العصر وأغنية < بحبك يا حمار > علامة عليه
كتبت – مروة فهمي : 
من خلال متابعتي للسينما المصرية وتاريخها ، أهتم بفن الموسيقى التصويرية والأعمال التي تستلهمها لكبار المؤلفين والملحنين سواء كانوا من الغربيين أو المصريين . وعندما تشاهد أفلام مرحلة الأسود والأبيض ستلاحظ أن الموسيقى التصويرية تقتبس بعض مقاطع من أوبرات وأخرى من عروض البالية بالإضافة إلى جُمل موسيقية في سيمفونيات مشهورة تبرز في أفلام كان يخرجها مجموعة من الفنانين المرموقين يطلعون بدورهم على ثقافة موسيقية رفيعة ويستخدمون بعض الجمل هنا وهناك في تعبير عن لغة الدراما السينمائية والقصص التي يتم إخراجها .

أحب جداً الاستماع إلى موسيقى الفنان علي إسماعيل وهي تتدفق عند كتابة الأسماء في مقدمة الفيلم الجميل والخفيف السفيرة عزيزة الذي أخرجه طلبة رضوان عن قصة لأمين يوسف غراب من بطولة الساحرة سعاد حسني ، شكري سرحان ، عدلي كاسب وعبد المنعم إبراهيم .
تصور الموسيقى إيقاع الحي الشعبي الذي يسكن فيه البطل < أحمد > وعثر في قلبه على < السفيرة > هنا بحضورها المصري المدهش وأناقة بنت البلد وجمالها المميز .
كانت أغلب الأفلام المصرية الكلاسيكية تستعين بما كان يسمى المنتخبات الموسيقية العالمية لتكون خلفية الأحداث التي يتناولها الفيلم السينمائي . علي إسماعيل جاء مع الخمسينيات والستينيات عندما بدأ البحث عن الموسيقى القومية والإيقاعات الشعبية لتجسيد الشخصية المصرية .
عندما تدقق في الأفلام الكلاسيكية وتصغى إلى الموسيقى تلمح أعمال لمؤلفين كبار مثل ريمسكي كورساكوف الروسي الشهير الذي ألف باليه شهرزاد ، حيث تم الاخذ من مقطوعته الموسيقية الكثير ، لأنها تصور أجواء الشرق وحالة من الغموض والتشويق ، بالإضافة إلى جمل تحلق في أطياف القصة الخالدة عن حب مستحيل ومراوغ وصراع مكشوف بين المرأة والرجل في لعبة الحياة والاستمرار واستخدام الحيل الفنية للهروب من سيف السياف مسرور الذي كان ينفذ أوامر سيده الملك للاطاحة برؤوس الجميلات والتخلص منهن نتيجة ملل شهريار وعشقه للتغيير ورؤية إمرأة جميلة كل ليلة .
شهرزاد نجحت في اغواء الملك شهريار بالحكايات المسلية التي خلبت لبه وجعلته ينتظر كل ليلة للاستماع إلى حكاية جديدة من المرأة الذكية والرائعة التي عرفت كيف ترود الملك الجبار بالقص الجميل والفنون التي لا نهاية لها .
تستطيع بسهولة سماع جمل موسيقى شهرزاد تتكرر في العديد من الأفلام المصرية القديمة والكلاسيكية ، بالإضافة بالطبع لموسيقيين روس آخرين خصوصاً تشايكوفسكي ، حيث تظهر قطعته الجميلة < رغبة إيطالية > في أفلام مصرية وتدخل في نسيج القصص الغرامية والأخرى التي فيها تشويق ومطاردات ومواقف درامية متنوعة .
لكن ما لفت انتباهي خلال تنقيبي في تفاصيل تلك الأفلام ما استمعت إليه في فيلم < إبن حميدو > وهو شريط كوميدي خفيف يتميز بالفكاهة وتخطف هند رستم الأضواء بشدة مع جمال طبيعي وجاذبية غير مصطنعة على الإطلاق وحوار متدفق بالذكاء المصري الظريف .
الفيلم أخرجه فطين عبد الوهاب عن قصة لعباس كامل ويشارك بالتمثيل فيه توفيق الدقن في دور غاية في الظرافة والفكاهة ، مع عبد الفتاح القصري ومناظره الشيقة حول السفينة < نورماندي تو > والحوار خفيف الدم الذي كتبه المؤلف وصاحب السيناريو عباس كامل .
لقد احتل الفيلم الخفيف والكوميدي مكانة خاصة به نتيجة تدفق الحوار والمناظر المختلفة وآداء عبد الفتاح القصري مع زينات صدقي بالإضافة بالطبع إلى إسماعيل ياسين مع وجود حبكة فنية غير معقدة عن عصابة تقوم بتهريب المخدرات تقع بسرعة شديدة في يد الأمن نتيجة ذكاء < إبن حميدو> .
فيلم المخرج فطين عبد الوهاب تم انتاجه وعرضه في عام 1957 . وهو محاولة كوميدية لتقليد الفيلم الآخر المختلف تماماً < حميدو > الذي أخرجه نيازي مصطفى عام 1953 بطولة فريد شوقي ، هدى سلطان وتحية كاريوكا . والشريط عبارة عن مغامرات ومعارك عنيفة ويخلو بالطبع من هند رستم .
في الحكاية الكوميدية الخفيفة تظهر الممثلة والراقصة نيللي مظلوم ، وهي من أصول يونانية وعاشت في مصر طوال حياتها الفنية وعندما قررت الاعتزال ذهبت إلى آثينا حيث ماتت ودُفنت هناك . وكم حزنت لهذه النهاية لأنها كانت في الحقيقة مصرية مائة في المائة  . صحيح أن ملامحها بها بصمات يونانية لكنها شربت من ماء النيل وأكلت الملوخية وعاشت تحت شمس مصر . وكانت السينما المصرية تحتضن أسماء عديدة من أصول يونانية من مواطني مصر يؤدون بعض الأدوار المختلفة ويظهرون في لقطات متعددة .
وقد اخترعت فرقة ساعة لقلبك شخصية الخواجة بيجو مع أبو لمعة في مفارقات مضحكة عن مقالب وخيال وإدعاء ظريف بالمغامرة والبطولة والشجاعة .
نيللي مظلوم كانت تظهر في أفلام مصرية وتمثل وأذكر لها دورها في فيلم التلميذة أمام شادية . لكنها اشتهرت باداء استعراضات راقصة كان يُطلق عليها إسم الرقص التعبيري المختلف عن الآخر الشرقي الذي يسميه الغربيون < رقص البطن >  كانت مظلوم متألقة في هذه الألوان الراقصة الغربية من فنون الباليه والتعبير الإيقاعي أيضاً . قد افتتحت في مصر قبل رحيلها إلى اثينا مدرسة لتعليم هذا الفن . في فيلم < إبن حميدو > عثرت عليها ترقص في لوحة تستخدم ملابس رعاة البقر الأمريكيين . لكن عندما أصغيت السمع أدركت أن المقطوعة هي للموسيقار الأرمني الشهير آرام خاتشاتوريان ومأخوذة من باليه مشهور له . وهذه القطعة تحمل إسم < رقصة الأكراد > .
وقد عاش خاتشاتوريان في داخل النظام السوفياتي القديم وحاول استنشاق الألحان الشرقية والقومية واهتم كثيراً بإيقاعات قادمة من حضارات وقوميات انتشرت في هذه المنطقة الغنية بثقافات مختلفة . جاءت أعمال خاتشاتوريات كلها عامرة بالفن والصدق والأصالة ودائماً عندما استمع إليه تنتابني حالة من الوجد والشوق والحنين إلى مصر .
لكن ما شد انتباهي ظهور قطعته الموسيقية في فيلم كوميدي مصري خفيف واهتمام لفنانين في هذه الفترة الاستعانة بأعمال موسيقية عالمية وبثها حتى يلتقطها الجمهور ويتعرف عليها ويتمتع بهذه الألوان الرفيعة والجميلة في الوقت نفسه .
هل اختار هذه القطعة المخرج فطين عبد الوهاب ؟ أم إنها من نصيب نيللي مظلوم ، التي كانت مطلعة على الموسيقى الغربية والكلاسيكية إذ كانت شغوفة باختيار المقطوعات الصالحة للرقص عليها بأسلوبها التعبيري . عموماً المخرج فطين عبد الوهاب معروف عنه الذوق الجميل وحبه للموسيقى والفنون . وقد اختار الزواج من المطربة ليلى مراد وأنجب منها المخرج والممثل الحالي زكي فطين عبد الوهاب ، الذي حمل إسم والد المطربة المشهورة الموسيقار والمطرب بدوره زكي مراد صاحب الألحان الرائعة في عصر الموسيقى والطرب الذهبي في مصر .
اكتشاف رقص نيللي مظلوم على موسيقى خاتشاتوريان أشاع في نفسي البهجة والفرح . فمصر في بداية الخمسينيات وقبلها كانت منفتحة على فنون العالم . وكانت أعمال موسيقية رائعة متداولة بين النخب الفنية والمثقفين مع محاولات لتعريف الجمهور العريض بهذه الألوان . ويذكر لعبد الوهاب تطعيمه لموسيقاه من موجات غربية وآلات أدخلها إلى موسيقانا مثل الكلارينيت والمندولين والساكسفون .
كانت سامية جمال في أفلام كلاسيكية ترقص على إيقاعات لموسيقيين أسبان ، أما تحية كاريوكا فاشتهرت باداء اللوحات الراقصة القادمة من كوبا والأرجنتين .
القاهرة في الخمسينيات وقبل ذلك كما تقول الكتب كانت تستقبل فرق الباليه التي تعرض أعمالها على دار الاوبرا القديمة في مواسم كان يحضرها ملك البلاد آنذاك فاروق الأول .
اكتشاف خاتشاتوريان في فيلم مصري قديم صُنع في عام 1957 أشاع الفخر بتاريخنا الفني الذي علينا التباهي والزهور به وبمراحله كله . فالمصريون كما يقولون أهل فن وبهجة .
وكان خاتشاتوريان بالذات علامة مرتبطة بمصر حيث تمت استضافته في المراحل الاولى في لتأسيس الكونسرفتوار . وقد قاد الفرقة السيمفونية المصرية وتتلمذ على فنها الرائع بعض الشخصيات المصرية الموسيقية التي ذهبت إلى موسكو لتلقي تعليمها العالي هناك .
أعرف أن هناك صلة بين مصر وروسيا في مجالات الفن والموسيقى ، لكن اختيار نيلي مظلوم للرقص على موسيقى خاتشاتوريان هو ما أسعدني وأصبح مثل الاكتشاف الجميل ، والذي يؤكد أن بلادنا كانت دائماً في مراحل حياتها متطلعة إلى الثقافة والفنون ، فالخديوي إسماعيل في القرن الثامن عشر يدعو فيردي لتأليف أوبرا < عايدة > وفي عام 1957 يسجل المخرج فطين عبد الوهاب لقطة في فيلم < إبن حميدو > ويستعين بموسيقى خاتشاتوريان فترقص عليها راقصة يونانية تقيم في القاهرة وتعيش فيها .
هذا العصر الجميل المختلط بألوان الفنون علامة على حياة مصرية مفتوحة ومتجددة بالشوق الحقيقي إلى المزيد من الابتكارات والمغامرات الفنية التي تفتح أمامنا أبواب الدنيا على مصراعيها .
هذا الاكتشاف يجعلني أنقب في الأفلام المصرية عن القطع العالمية الموسيقية المنتشرة خلال مناظرها . وهذا يقودنا إلى الاستماع للموسيقار اليوناني الذي كان يقيم في مصر < آندريا رايدر > وفنه الموسيقي الرائع . وقد استمعت مرة للموسيقار عمار الشريعي يشرح موسيقى رايدر التصويرية لفيلم < دعاء الكروان > وكان مبهوراً بالآلات التي استخدمها والجمل التي تصور أجواء الصعيد ولحظات التوتر والقلق في قصة حب تخنقها التقاليد المتزمتة .
اندريا رايدر قادني إلى موسيقى أفلام صنعها موهوبون ودارسون مثل أعمال اموسيقار راجح داود في فيلم < الكيت كات > اخراج داود عبد السيد عن قصة للراحل ابراهيم اصلان .
فيلم ابن حميدو على طرافاته وأسلوبه الكوميدي يجمع عدة شخصيات في الفن الموسيقي والرقص التعبيري والكتابة السينمائية فهناك نجوم ونجمات في شريط يعتمد على قصة بسيطة لكنها لا تزال حتى الأن تسعد الملايين من المشاهدين .
وعندما ننظر حولنا في الوقت الراهن نرى كيف أن الفن تراجع وتخلف في ظل العشوائيات والزحام والعداء للجمال . وهناك من يدعي الفن ويحترف الموسيقى بالعافية وبالشغب والتهديد أيضاً . وهناك أغنية تتغزل في الحمار ويؤديها مطرب يقول عن نفسه انه شعبي وترقص راقصة هي دينا على إيقاعات هذا اللحن السخيف والكلمات التي تثير الاحتجاج < بحبك يا حمار > . وإذا كانت نيللي مظلوم ترقص على جمل خاتشاتوريان وذلك في عام 1957 فإن التراجع العنيف وتراكم البلادة وتدني الذوق العام جعلنا ننزلق إلى هذه المواد السامة التي تصيبنا بالأمراض وتسقط المناعة في عقولنا وقلوبنا .
لكن الوقاية من هذا الفن الهابط هو مشاهدة < إبن حميدو > والرجوع إلى السفيرة الجميلة عزيزة والبحث عن موسيقى علي إسماعيل ومحمد عبد الوهاب وراجح داود .
تابع صفحتنا على الفيس بوك

التعليقات