كتاب 11
كتاب قواعد اللعبة المستعار
جعل الغرب من تحالف الناتو العسكري رده الأساسي على اغتصاب روسيا للسلطة في أوكرانيا. لكننا بذلك ربما نحارب المعركة الخاطئة، فالأسلحة التي استخدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا تبدو عمليات سرية شبه عسكرية أكثر منها قوة عسكرية تقليدية.
وربما يكون بوتين، ضابط الاستخبارات السوفياتية السابق، أنه اقتطع صفحة من كتاب قواعد اللعبة الأميركي خلال فترة رئاسة رونالد ريغان، عندما بدأت الإمبراطورية السوفياتية، توجه الشكر للحملة الأميركية السرية الدؤوبة. وبدلا من مواجهة موسكو، قام الرئيس ريغان بدعم الحركات التي عملت على تقويض سلطة روسيا في أفغانستان ونيكاراغوا وأنغولا وأخيرا بولندا وشرق أوروبا.
كانت استراتيجية أميركية ذكية آنذاك، لتطرد الاتحاد السوفياتي الجريح وتستغل بانتهازية المظالم المحلية، حيثما كان ذلك ممكنا. والآن تلعب وتمارس روسيا بذكاء نفس الدور لتحصد أقصى ربح بأقل تكلفة ممكنة.
جال هذا التناظر في خاطري الأسبوع الحالي عبر جون ماغواير، وهو ضابط العمليات السرية شبه العسكرية السابق في وكالة المخابرات المركزية، الذي خدم في برنامج الكونترا في نيكاراغوا، ولاحقا في الشرق الأوسط، والذي قال «في نهاية المطاف، كان بوتين هو ضابط الاستخبارات، فقد شاهد ما فعلناه في الثمانينات، والآن هو يمارسها مرة أخرى ضدنا».
من البداية قاد فيلاديمير بوتين في شبه جزيرة القرم، كعملية «سرية». ولم ترتدِ القوات الروسية أية ملابس مميزة، للحفاظ على ورقة توت الإنكار. وأصر المسؤولون الروس، من بوتين ونزولا إلى أدنى مسؤول، على أنهم لم يكن في نيتهم الاستيلاء على شبه جزيرة القرم وأن قواتهم لا تزال متمركزة في مواقعها. كانوا يسيطرون على تدفق المعلومات، وعملوا على تنسيق رسائلهم.
وكانت حملة بوتين لزعزعة الاستقرار في شرق أوكرانيا هي الأكثر خطورة مما كانت عليه عملية شبه جزيرة القرم، وذلك لأن الحكومة الأوكرانية قد حذرت من أنها سترد اذا غزت القوات الروسية شرق حدودها. ولكن في حين كان العالم يشاهد فيه المناورات الروسية التي شارك فيها خمسون ألف جندي عبر الحدود، كان الهدف الحقيقي من ذلك هو زعزعة الاستقرار سرا في المدن الكبرى الواقعة شرق أوكرانيا، لأن غالبية سكان هذه المدن هم من الناطقين بالروسية، ومن ثم يمكن لبوتين الاعتماد على قاعدة من التأييد الشعبي المحلي.
يوم الأحد، احتل المتظاهرون الموالون لروسيا المباني في دونيتسك، وخاركوف ووهانسك. وقال بعض المتظاهرين إنهم يريدون إجراء استفتاء حول الانضمام لروسيا، تماما كما فعلت القرم قبل ضمها. وكان ذلك استغلالا ذكيا للتحيز الثقافي والديني المحلي ـ هذا النوع من «فرق تسد» خطوة كانت المفضلة لوكالات الاستخبارات لعدة قرون.
وقد حاول وزير الخارجية الأميركي جون كيري يوم الثلاثاء الماضي تسليط الضوء على عملاء المخابرات الروس. وقال كيري لإحدى اللجان في مجلس الشيوخ «من الواضح أن القوات الخاصة الروسية كانت عاملا محفزا وراء الفوضى خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية». وأشار إلى أن الروس قد يستخدمون الاضطرابات كذريعة للتدخل العسكري، وقال: «لكني أعتقد أنهم سيلتزمون بأسلوب العمليات السرية، لأنها أكثر أمنا، ويحقق نفس النتائج بما يمكن أن تزعمه موسكو من الشرعية».
إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء لنرى كيف نجحت الولايات المتحدة مع منظمة «تضامن» في بولندا في الثمانينات، يمكنك إدراك مدى قوة هذا العمل السري. كان حليف وكالة الاستخبارات المركزية الأساسي الكنيسة الكاثوليكية برئاسة البابا البولندي يوحنا بولس الثاني، الذي كان يعتقد كقناعة دينية بضرورة التخلص من الشيوعية السوفياتية. وللعمل مع الكنيسة، كان على وكالة الاستخبارات التنازل عن القواعد التي تحظر العمل مع المنظمات الدينية.
الأمر الوحيد الذي تعلمه بوتين من مشاهدة سقوط الإمبراطورية السوفياتية هو أن الأسلحة الأكثر فعالية هي تلك التي تستخدم في السر ـ والتي تعد قانونية من الناحية الشكلية في البلدان التي تجري فيها تلك العمليات. وكانت كل القوة النووية للاتحاد السوفياتي عديمة الفائدة ضد العمال المضربين في بولندا، أو المقاتلين الذين استخدموا أسلوب الكر والفر في نيكاراغوا، أو المقاتلين المجاهدين في أفغانستان. وكان جسد الوحش الاتحاد السوفياتي العملاق هدفا لمئات الطعنات الصغيرة.
كيف يمكن لأميركا والغرب الرد بشكل فعال ضد تكتيكات بوتين؟ الجواب الحقيقي يجب أن يأتي من الأوكرانيين، الذين سيتعين عليهم فرض التعبئة لحماية وطنهم من التدخل الأجنبي. وقد بدأت كييف بذلك عندما أرسلت قوات الشرطة لإجلاء المتظاهرين من المباني في خاركيف، لكنها فشلت في إخراجهم من المكاتب الحكومية في دونيتسك. والخدعة التي وقعت فيها الحكومة الانتقالية في كييف هي مكافحة التمرد غير العنيف ـ الحفاظ على السكان الأوكرانيين موحدة إلى جانبها إلى أقصى حد ممكن.
النضال الأوكراني يخبرنا أن هذا نوع مختلف من الحرب. وقد تعلم بوتين الدروس من العراق وأفغانستان، وتعلم أيضا الدروس من بولندا وألمانيا الشرقية. وقاد الجاسوس السابق من موسكو، مستخدما دليل الحيل، لأنه يعلمه جيدا.