كتاب 11
نظّم غيبوبته كمؤسسة ودخلها كمشروع
كان ياسر هواري هادئا. بسبب هدوئه كان موضوعيا. بسبب موضوعيته مضى في الصحافة دون ضجيج. لكنه كان كثير الأثر ومن دون ادعاء. لعله – مع احتمال أن أكون مخطئا – أول من نقل الصحافة الأسبوعية في لبنان من الحرفة إلى الإدارة، ومن الفردية إلى التخطيط. حتى ذلك الوقت من الخمسينات كان صاحب المجلة هو نجمها ومالها وموردها ونجاحها، يكافح، وقد يخفق، فيبقى المحررون من دون رواتب والمطبعة من دون تسديد. عندما أسس ياسر هواري «الأسبوع العربي» عام 1953، اعتمد مكافأة عالية للمادة الجيدة لا للاسم المعروف، وبدل الطاقم الصغير، وسّع دائرة المتعاونين «بالقطعة»، بل بالكلمة، على الطريقة الغربية.
الريادة الثانية كانت في إعطاء الصورة، للمرة الأولى، أهمية موازية للتحرير. واعتمد في ذلك نموذج مجلة «باري ماتش» الفرنسية، التي لا تزال أسبوعية فرنسا الأولى حتى الآن. ولم يكن، كرئيس للتحرير، يكتب المقال السياسي الأسبوعي، بل قصة قصيرة برع في فنونها.
الأثر الثالث كان خروج ياسر من لبنان إلى الإطار العربي، تاركا الشأن اللبناني إلى صفحات قليلة. ومن أجل ذلك، استعان بالمراسلين والكتّاب العرب من كل مكان. لكنه تصرف وكأن العالم العربي حديقة متناسقة لا خلاف فيه. كان داخل الحدث وخارج الخلافات. وحافظ على آدابه واحترامه لنفسه واحترام الآخرين. وعندما هاجر إلى باريس في الحرب، سجّل ريادة أخرى عندما انتقل إلى الصحافة العربية باللغة الفرنسية. ومن ثم أنشأ معها عددا من المجلات العربية، وانتقل بالدار إلى دبي، التي كان أول من قدم خبرته لصحافتها. ويدير أولاده من بعده مؤسسة صحافية فائقة النجاح، ولكن بظل هادئ مثل ظله.
كان ياسر أحد الكبار الذين أفدت من نموذجهم المهني والأخلاقي. وكان مكتبه في باريس مكتب استشارة لكل من يصل إليها من أهل المهنة. فوجوده كان يبعث على الطمأنينة، ومثابرته كانت تبعث على الأمل. وعندما استسلم هادئا لغيبوبة متسللة إلى نفسه الطيبة، كان لا يزال يحلم بمشروع ما، بصحافة ما، بلغة ما. حتى غيبوبته، نظمها كمؤسسة، ودخل فيها كمشروع.