كتاب 11
الفعل المضارع
انتقل معي بقوة الخيال إلى ذلك الزمن البعيد قبل أن يتعلم البشر الكلمات، أي في تلك المرحلة التي كانت فيها الأرض لا تعرف سوى الأصوات والأنغام، ومن هذه الأنغام والأصوات بدأ الإنسان من أجل المزيد من القدرة على التواصل، بدأ في اختراع اللغة، مستندا ومستعينا بكل رصيد الدنيا من الأصوات والنغمات. وحريصا في الوقت نفسه على شحن هذه الكلمات بالمعاني التي يريد إيصالها عبر الزمن لأحفاده، هناك إذن المعنى الظاهري للكلمة والمعنى الكامن بداخلها الذي هو بالضرورة يحمل رسالة لنا من أجدادنا علينا أن نفهمها.
حسنا.. تعالى للأفعال، سنجد الفعل الحالي الذي يحدث الآن، والفعل الذي حدث قبل ذلك، ونسميه الماضي، وهناك أفعال في المستقبل غير أنك تتخذ قرارك بشأنها الآن. ولكن اللغة العربية لا تعرف شيئا اسمه الفعل الحالي، بل اختارت لهذا الفعل اسما آخر هو «المضارع»، والرسالة الكامنة هنا واضحة أشد الوضوح، أفعالك الحالية أو الحاضرة لا بد أن تكون مضارعة، أي داخلة في سباق وتنافس مع الآخرين، وبغير هذه المضارعة لا أهمية لما تفعله، بل لا أهمية لوجود حضرتك ذاته. إنه الفعل في «الحاضر» وبغير أن تضارع وتنافس، لا حضور لك. تعالى لنفس الفعل في اللغة الإنجليزية، الحاضر عندهم «هدية» هو الوقت الحالي وهو أيضا هدية (Present) هو هدية من الخالق الأعظم، وعليك أن تتعامل مع هذه الهدية باحترام شديد بل وبعرفان أيضا بالجميل.
لقد كتبت في هذا الموضوع كثيرا، ولكنه ألح علي بقوة بعد أن قرأت منذ أيام إعلانا عن إصدار جريدة «الشرق الأوسط» طبعتها الإلكترونية باللغة الصينية. هو خبر من ذلك النوع الذي يشعر الإنسان بالفخر والكبرياء، من المستحيل أن تكون حاضرا وموجودا على خريطة الحضارة المعاصرة بغير أن تكون على صلة قوية بالشعب الصيني، وذلك من خلال أعظم اختراع للجنس البشرى وهو الكلمات. هذا فعل من أفعال المضارعة.
محترفو الإعلام القدامى، ربما نظروا للأمر من زاوية السياسة، أي استخدام الإعلام للتأثير سلبا أو إيجابا في بقية شعوب الأرض، وهي فكرة خائبة وأقرب للفاشية، يعتنقها فقط هؤلاء الذين عجزوا عن مغادرة الماضي واللحاق بالحاضر. أما أنا فأرى في هذه الخطوة جسرا قويا جديدا بيننا كعرب وبين أساتذة وطلبة أقسام اللغة العربية في الجامعات الصينية. بالإضافة بالطبع لذلك الجسر الكبير بين الحضارتين العربية والصينية. بعد ذلك يأتي دور التجار، الذين نسميهم رجال الأعمال، أرجو ألا تفاجأ عندما أقول لك إن التجار يلعبون الدور الأول في نقل الحضارة من مكان إلى مكان، هذا هو رأي ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة.
قد تمط شفتيك وتقول: ماذا؟ تتكلم عن الحضارة العربية.. لا تخدع نفسك يا رجل.. أين هي؟
في ردي عليك لن أحدثك ذلك الحديث السخيف عن ماضينا وعظمته، ولكني أقول لك: هناك بيننا من هم قادرون على الفعل المضارع.. هم يحترمون الحياة ويحترمون أنفسهم ويحترمون الآخرين.. هم يؤمنون بدورهم في حماية الحياة.. هم متحضرون أي أنهم كما قلت لك من قبل، يحبون النظام والنظافة ويقدرون الجمال.. هم موجودون بيننا.. هم فعل مضارع.. نعم هناك حضارة عربية أنا أحد كتابها.