آراء حرة
د. مصطفى يوسف اللداوي يكتب : مهلاً أيها الفلسطينيون
مهلاً أيها الفلسطينيون، إيلام العجلة والارتباك، والتعثر والاضطراب، فلستم في عجلة من أمركم، ولا يوجد من يطاردكم ويلاحقكم، كما لا يوجد من يقوى على إكراهكم وإجباركم، فأنت أسياد أنفسكم، أحرارٌ في توجهاتكم، وأمناء على قضيتكم، ووكلاء عن أمتكم، أنتم وحدكم أصحاب القرار، وأهل القضية، وسكان الوطن، وملاك الحق، فلا تتعجلوا أمركم.
شعبكم لا يطالبكم بالاستعجال، ولا يلح عليكم بسؤاله عن الحل، أو زمان الفرج، ولا يئن لكم طالباً الاستسلام، أو ساعياً للخلاص، فهو لم يتعب ولم يمل، ولم يضج ولم يتبرم، ولم يرفع صوته صارخاً من الألم، أو يائساً من الفرج، وإن كان قد مضى على نكبته في بلاده قرابة القرن من الزمان.
وهو لم يضحِ بما ضحى به كل السنوات الماضية، ليأتي بعدها ويقبل بالفتات، ويرضى بالقليل، ويسلم للعدو بما عجز عن تحقيقه بالحرب، أو نيله بالسلاح، أو تثبيته بحكم الأمر الواقع، وفرضه بالقوة، فهم يعلم أكثر من غيره أن قوته لا تجلب الحق، ولا تقيم العدل، ولا تقهر أصحاب الحق، ولا ترغم المقاومين، ولا تسكت المطالبين.
والشعب الفلسطيني طموحه كبير، وتطلعاته عالية، ولا يرضيه غير الوطن كله، بترابه وسيادته، وسمائه وبحره، وجبله وسهله، ومياهه وخيراته الجوفية، ومقدساته ومعتقداته، فلا تكسروا ظهر شعبكم بالتنازل، ولا تخذلوه بالتراجع والإنكفاء، ولا تظلموه بالاستسلام، بحجة أنه تعب ويستعجلكم.
أيها الفلسطينيون إياكم أن تصغوا السمع إلى الإدارة الأمريكية، التي تحاول أن تحسن صورتها، وأن تجبر ضعفها، فإنهم لا يمحضونكم النصح، ولا يصدقونكم القول، ولا يحبون لكم الخير، ولا يسعون لإقامة العدل، وإرساء السلام، إنهم يتطلعون لصالح الكيان فقط، ويسعون لتأمينه وترسيخه، وتثبيته وضمان أمنه وسلامته.
لا تجيبوا ساكن البيت الأبيض إلى طلبه، ولا تلينوا له في الخطاب، ولا تنخدعوا بكلامه عن الواقعية والإيجابية، فليس التنازل عن الحق مرونة، وليس التفريض في الوطن إيجابية، إنما المرونة مع الأهل، وتجاه الشعب وقواه، بما ينفعه ويخدم مصالحه، ويحفظ وطنه، ويصون قضيته.
والإيجابية هي في التعامل مع الشركاء، بصدقٍ وإخلاص، وتعاونٍ وتشاورٍ، وتنسيقٍ من غير تعارض، والقبول بتقاسم الأدوار، وتحمل الأعباء، والتصدي للمهام والواجبات، دون تنازعٍ واختلاف، ومن غير خصومةٍ واقتتال، وبعيداً عن الانقسام والتمزق، فهذه هي الإيجابية المطلوبة، التي يتطلع إليها الشعب، ويسعى إليها، وينقصه وجودها في قيادته، ولدى مرجعيته.
ندرك أن الهجمة شديدة، وأن الحملة الأمريكية نشطة وعنيدة، وأن الجهود مكثفة، والضغوط لا تتوقف، والمساعي لا تهدأ، لأن الأمريكيين ومعهم الإسرائيليين يعلمون أن هذه الفرصة مناسبة لهم، والظروف جداً مواتية، فالاختلافات الفلسطينية الداخلية، والانشغالات العربية، تساعدهم على تحقيق أكثر مما يتوقعون، وأفضل مما يتمنون.
ويرون أن الفلسطينيين على استعدادٍ لتقديم المزيد من التنازلات، والتراجع عن قديم الأحلام، وجميل الأماني، إذ لا أحد معهم، ولا يوجد من يساندهم، ولم يبق من يدعمهم، وقد تخلى عنهم الكثير من حلفائهم، وهم غارقين في مشاكلهم، ومتورطين في شجونهم وأحزانهم، منشغلين بأنفسهم، يكشفون أسرارهم، ويفضحون سترهم، وينشرون على الملأ مخازيهم.
وقد باتوا وسلطتهم مدينيين بمليارات الدولارات، ولا يوجد أي أفق لحل الأزمات التي يواجهون، والعقبات التي تعترضهم، ولا يعلن الإتحاد الأوروبي ولا الولايات المتحدة الأمريكية، ولا الدول المانحة، استعدادهم لتغطية العجز، وسداد الدين، وإعادة تقديم الدين، لدفع الأجور، وتسيير عجلة الاقتصاد الفلسطيني المتوقفة منذ سنوات، والتي انعكست آثارها على مختلف جوانب الحياة في فلسطين.
رغم كل هذه الظروف الصعبة، والتحديات الكثيرة، والمشاكل الداخلية المخزية، فلا داعي للعجلة أبداً، ولا مبرر للكركبة والاضطراب، فليست الضغوط الاقتصادية، والاحساس بالجوع والفقر، والعوز والحاجة، والمعاناة من الحصار والتضييق، هي التي تدفع الفلسطينيين إلى التراجع والاستسلام، فهذا السلاح ليس جديداً، وقد تم تجريبه ضدهم عشرات المرات، وتمت ممارسته بشدةٍ أكثر، وحقدٍ أكبر، وجاع الفلسطينيون وتضوروا من شدة الحصار، لكنهم لم يستخذوا، ولم يضعفوا ولم يلينوا، ولم يطلبوا من الكيان الصهيوني، ومن القوى المحاصرة، أن يرفعوا عنهم الحصار، وأن يعيدوا تقديم أموال الدعم لهم، مقابل أن يقدموا للعدو تنازلات، وأن يتراجعوا عن بعض شروطهم ومواقفهم.
الفلسطينيون المحاصرون، من أبناء المخيمات، وسكان القرى والبلدات الخاضعة للإحتلال، والأسرى والمعتقلون، والجرحى والمصابون، والثكلى والأرامل، ومن فقد الولد والعزيز، والأخ والوالد والشقيق، هم أكثر الفلسطينيين ثباتاً وتمسكاً بمواقفهم، بل هم الذين يشحذون الهمم، ويقوون العزائم، ويشجعون المقاتلين والمتحدثين باسم الشعب الفلسطيني، وهم الذين يرفعون الأصوات عالية، بأننا أصحاب الأرض وأهل الحق فلا نضعف، وأننا الأقوى والأثبت فلا نتراجع، وأننا الأصدق والأخلص فلا نتلوث.
إنه لسان حال الشعب الفلسطيني كله، في الوطن وفي الشتات، وفي المدن والمخيمات، وفي السجون والمعتقلات، وفي القبور والأرحام، أن مهلاً فلا تستعجلوا، بل لا تخونوا ولا تفرطوا، ولا تركضوا وراء عدوٍ خبيث، ولا تصدقوا وسيطاً مخادعاً، ولا تجروا وراء سرابٍ بقيعة، إذ لا ماء فيه ولا ظل عنده، ولا خير يرتجى منهم ولا أمل يعقد عليهم.
لا تفرطوا في الحقوق، واصبروا واثبتوا ولا تتنازلوا، واحرصوا على أن تبقى الراية مرفوعة، والقضية قائمة، والوطن واحداً، والأرض موحدة، والأهداف نفسها، فإن لم تكونوا قادرين على تحقيقها أنتم، فلا أقل من أن تسلموا الراية لمن بعدكم مرفوعةً خفاقة، نظيفةً طاهرة، فلا تقيدوهم باتفاقيات، ولا تكبلوهم بمواقف، ولا ترهنوا المستقبل بعجزكم، ولا تحكموا عليهم بذلكم، فقد يكونوا أقوى منكم، وأكثر إيماناً وصبراً منكم، وهم بإذن الله كذلك، فالشعب والأجيال يؤمنون بحقهم وإن تأخر، ويعملون من أجله وإن كان صعباً، ويضحون في سبيله ولو كان مكلفاً.