كتاب 11
ثمن الثورة
دفع المصريون، وما زالوا، ثمن ثورتين شاركوا فيهما. صحيح هناك من استفادوا وقفزوا إلى واجهة الصورة ونالوا المزايا بأشكال مختلفة، وهناك من احترقوا بنار الثورة، أو كُشفوا وخسروا أحلاماً كانت تراودهم فتحولت كوابيس تطاردهم. لكن الشعب نفسه الذي لم تكن لديه طموحات كبرى، وإنما فقط العيش الكريم، بقي على حاله بل تدهورت أحواله. قدم الشهداء والضحايا والجرحى والوقت والجهد والاعتصام والهتاف والصراخ، وأزاح نظامين وأطاح حكومات، ولفظ نخباً وجماعات وأحزاباً وائتلافات، لكن أوضاعه المعيشية لم تتقدم، وظروفه الحياتية باتت أصعب، والأجواء من حوله تشير إلى أنه مَنْ يدفع ثمن الثورتين فقط، ويسدد كذلك ثمن أخطائه فيهما، خصوصاً سيره وراء مَنْ خدعوه وتاجروا بأحلامه وامتطوا أهدافه.
نعم حال مصر أفضل كثيراً من دول أخرى مر عليها الربيع العربي، فقسمها أو ضرب وحدتها، أو أوقع أهلها بعضهم في بعض، أو أسقط مؤسساتها، أو فكك جيوشها. لكن المؤكد أن الشعب المصري حين خرج في كانون الثاني (يناير) عام 2011 ليسقط نظام مبارك لم يتصور أن حاله بعد ثلاث سنوات من الثورة، سيكون على النحو الذي هو عليه الآن.
نعم يدفع المصريون، في هذه المرحلة ولفترة مقبلة وغير قصيرة، ثمن أخطاء وقعوا فيها لا يكفي الاعتراف بها، أو حتى الاعتذار عنها لتتجاوز البلد عثراتها، أو ارتباك مؤسساتها، أو انهيار العلاقات الاجتماعية بين أبنائها، أو عجز حكوماتها المتعاقبة عن تلبية طموحات الناس. هل نجحت الثورة المصرية بموجتيها في كانون الثاني (يناير) 2011 وحزيران (يونيو) 2013 في تحقيق الأهداف التي انفجرت من أجلها؟
الإجابة بالطبع أنها نجحت في أشياء وأخفقت في أخرى. أزاحت نظاماً، وحققت الحريات للناس، وأبعدت وجوهاً سئمها الناس، وأعطت الشرطة درساً لن تنساه، وأبهرت العالم بمشاهد الميادين الممتلئة والشوارع المزدحمة والمطالب الموحدة. وجعلت كل مسؤول يحسب ألف حساب لغضب الشعب، لكن الثورة طفحت على الناس وجوهاً تصارعت على جني ثمارها، وأخرى سعت إلى تصفية الحسابات، وشخصيات ثبت أن لا مانع لديها لإسقاط الدولة مقابل مصلحة هنا أو فائدة هناك. ضُرب الاقتصاد بشدة فعانى الناس بصورة أكبر، وتدهورت أحوالهم بشكل أفدح. واكتشف الناس زيف دعاوى غالبية السياسيين، وغياب الرؤى والحلول والبرامج لدى الأحزاب والقوى السياسية، وفشلها في استثمار الجموع وضغوط الجماهير للاتجاه بالبلد نحو مستقبل أفضل. ما يفعله «الإخوان» الآن هو نتيجة ركوبهم الثورة بعلم وموافقة وتأييد قوى سياسية أخرى كانت أكثر انتهازية منهم، ونتيجة طبيعة لانفلات أمني حرص عليه ودعمه وشجعه سياسيون، على أساس أنها شرطة مبارك وأجهزة أمن نظامه.
وما حدث من اهتراء وارتباك عند تشكيل حكومة محلب لا يختلف عن أفعال كل من عصام شرف ومن بعده الجنزوري وبعدهما الببلاوي، فالكل مرتبك والاهتراء سيد الموقف. طوال ثلاث سنوات خضعت الجموع «لمكلمات» النخب ونظريات المُنظرين وتوجهات المتصارعين على كعكة مصر التي تعرضت «للنهش» في الداخل، والتآمر من الخارج. وبات قطاع من الشعب نادماً على مشاركته في الثورة الأولى، وقطاع آخر تمنى لو لم يشارك في الثانية. والمحصلة تدهور في أحوال الناس، وتراجع في الطموحات إلى الحد الذي جعل بعضهم يتمنى زمن ما قبل الثورة، وكأن الخيارات صارت محصورة ما بين الأسوأ والسيء، بينما الثورات يفترض أن تحقق الأفضل للناس.
يضمن الجيش بقاء الدولة، إذ نجح في تخطي أخطار جسيمة كادت تهدد كيانها، والمغزى الرمزي من بقاء المشير السيسي ضمن التشكيلة الحكومية للمهندس إبراهيم محلب أن المؤسسة العسكرية متمسكة به كقائد ليكون ترشحه قراراً شخصياً.
على رغم الثمن الفادح فإن كل تلك المعطيات تشير إلى أن مصر تتجه نحو الجمهورية الثالثة، أي نظام مختلف عن كل ما سبقه، وأن الزمن الذي يتحمل فيه شخص واحد المسؤولية ولى، وشكل الدولة التي يخضع فيها الناس للنظام الحاكم مقابل تلبية احتياجاته وتوفير الأمن لهم انتهى، وأن الرئيس المقبل هو حكم بين سلطات ومؤسسات ومكونات المجتمع، وليس «بابا نويل» يأتي بالهدايا والمكافآت.
كانت الكلفة عالية خلال ثلاث سنوات من المعاناة، عشرات البلايين من الجنيهات، واستثمارات توقفت، ومؤسسات كادت تنهار، لكن المعاناة والتضحيات والكلفة المالية العالية هي بمثابة «عربون» للمستقبل، بعدما حافظ الوطن على وحدته جغرافياً ونسيجه اجتماعياً، وسيأتي رئيس مهمته الأولى فتح شرايين المجتمع ليتحرك وينطلق، وتهيئة المناخ للمواطنين أن يشاركوا ويعملوا من دون تهميش فئة، أو إقصاء أحد، أو امتيازات للمحظوظين.