كتاب 11
عمر سليمان الذي لم يمت
ليس سراً أن جهاز الاستخبارات المصري يخوض صراعاً شرساً ضد أجهزة استخبارات دول عدة، سعت إلى استغلال الظروف التي خلفتها الثورة لتفتيت مصر، أو على الأقل التأثير في دوريها الإقليمي والدولي. وبعيداً من تضخيم المسألة أو التهوين منها، فالطبيعي أن دولة بحجم مصر، تمر بظروف بوطأة ما جرى لها بعد الثورة، محل اهتمام من دول أخرى، بعضها سارع إلى نجدتها ومساندتها والوقوف إلى جوارها، كالسعودية والكويت والإمارات، وأخرى سعت إلى الاصطياد في الماء العكر كتركيا وقطر… ناهيك عن الولايات المتحدة وإسرائيل!
ولا تستغرب حين تطالع كتباً وصحفاً ومواقع إلكترونية تنكر وفاة السيد عمر سليمان رئيس الاستخبارات المصري السابق ونائب الرئيس لأسبوعين فقط. لا تبحث في الأسباب التي يروجونها للتأكيد على أن الرجل ما زال حياً، ولا تجهد نفسك في العثور على أدلة تثبت أنه مات، فالقضية لا تتعلق بشخص وإنما بمؤسسة. أو قل دولة! باختصار لا مجال للتشكيك في وفاة سليمان في مستشفى في أميركا ودفن في مقبرة أسرته في القاهرة. ملابسات الوفاة والإشاعات التي انتشرت وقتها جعلت العبد لله يلتقي «الحانوتي» الذي غسل الجثمان ودفنه، وهو أكد أن لا مجال للشك في الأمر. الأهم الآن البحث عن المغزى والمعنى.
صحيح أن المصريين بعد الثورة غرقوا في بحور من الإشاعات والأكاذيب والمعلومات المغلوطة، ومورس في حقهم كل أنواع التدليس والكذب. وحقيقي أن أحزاباً وجماعات وقنوات تلفزيونية ومواقع إلكترونية تحولت إلى مضخات لتوزيع السموم ومنصات لإطلاق الافتراءات، كل بحسب مصلحته. وصحيح أن بعض مروجي شائعة بقاء عمر سليمان حياً هدفهم خلط الأوراق، وتشويش الأفكار، وإرباك العقول ليسهل بعدها تمرير معلومات أخرى مكذوبة أكثر خطورة. لكن اللافت أن غالبية رافضي تصديق واقعة الوفاة هم من محبي عمر سليمان وأنصاره. قد تختلف الآراء والمواقف حول علاقة سليمان بمبارك ونظام حكمه، وقد تتعدد وجهات النظر حول أدواره السياسية. لكن هناك اتفاقاً على قدرات الرجل الاستخباراتية والأمنية. وللذكرى، فإنه على رغم الحملة التي استهدفت أجهزة الأمن، والاتهامات التي طاولتها مع انطلاق الثورة، والإجراءات التي اتخذت لـ «ترضية» الثوار ونالت منها، فإن الانتقادات تركزت على جهاز مباحث أمن الدولة خصوصاً ووزارة الداخلية عموماً، بينما ظل جهاز الاستخبارات العامة بأجهزته والاستخبارات العسكرية بفروعها بعيدة نسبياً من مطالب الثوار بتصفيتها أو إعادة هيكلتها.
نعم لا مجال لنفي أخطاء جهاز أمن الدولة على مدى عقود. فالتجاوزات كانت تتم جهاراً نهاراً، وبمنتهى «البجاحة» أحياناً، لكن ضغوط الثوار وألاعيب «الإخوان» وغياب الوعي لدى قطاع واسع من الناس أمور أدت إلى تصفية الجهاز، والإطاحة بكوادره، وأخذ «العاطل» في الباطل، وعدم التمييز بين إدارات أو أقسام في الجهاز كان وجودها ضرورياً، ولم يتورط عناصرها في أي تجاوز أو بين من تجاوزوا. ولأن مصر أثناء الثورة وبعدها أصبحت «مرتعاً» لأجهزة استخبارات دول أخرى، ولأن التنظيم الدولي لـ «الإخوان المسلمين» نجح في وضع الجماعة على رأس الحكم في مصر وبعد ثورة 30 حزيران (يونيو) اتبع كل السبل لإسقاط الدولة، وفي غياب نسبي لجهاز أمن الدولة، فإن عبئاً كبيراً ومسؤوليات جساماً تحملها جهاز الاستخبارات العامة وكذلك الاستخبارات العسكرية، نظراً لوجود الجيش ضمن المشهد.
ومن هنا تأتي حكاية عمر سليمان الذي لم يمت، فالعقل الجمعي لملايين المصريين استحضر المؤسسة في صورة الشخص الذي تولى مسؤولية الاستخبارات العسكرية والعامة لفترة غير قصيرة. ضمائر هؤلاء الرافضين تصديق موته، وجدوا مصر في خطر فاستدعوا المؤسسات التي تحميها والدولة تخوض حرباً شرسة من أجل البقاء. على مدى عقود كان اسم رئيس جهاز الاستخبارات غير معروف ولا يُتداول في وسائل الإعلام، لكن الواقع المصري فرض على سليمان أن يعمل وسط الأضواء، فدور مصر الإقليمي وتشابك القضايا الفاعلة فيها إقليمياً وعالمياً جعل اسم رئيس الاستخبارات مطروحاً وعلى الملأ.
مات عمر سليمان لكن الناس استدعت الاستخبارات لتدافع عن الدولة حين استحضرت الدور للمؤسسة القديمة لتنقذ الدولة العريقة، التي قد تصاب بالترهل، أو يضربها الفساد، لكن أهلها يرفضون أن تقع فريسة لدول أخرى صغيرة ولو امتلكت الأموال، أو تخضع لدول أخرى كبيرة ولو حظيت بالسطوة والقوة والسلاح. المؤسسة التي لم يعرف عنها التورط في حروب «قذرة»، أو عمليات مُسيئة، فلم تخطف المعارضين لتذيبهم في الأحماض، ولم تدفن الجواسيس في الصحارى، أو تجمدهم في كتل الثلوج، وإنما تطارد الإرهابيين والجواسيس وتوقفهم وتحيلهم على القضاء. مات سليمان لكن المصريين الذين يشعرون بالخطر لا يصدقون أبداً أن بلدهم يمكن أن يموت.