مصر الكبرى
سلموهم الإدارة وليس الحكم يا سيادة المشير
 
عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول مفهوم ينطبق على المجتمعات والكيانات المستقرة ديمقراطيا وأمنيا، أما في مناطق الاضطراب الأمني والسياسي فمن حق كل فرد من قرية معزولة إبداء رأيه والانحياز إلى فريق على حساب آخر. ومن واجب المجتمع الدولي التدخل. ومن حق الدول التدخل، تفاديا للضرر الذي ينجم عن الاضطراب. والوضع المصري من النوع الذي يتيح التدخل بإبداء الرأي وليس التدخل المباشر، لأن حرية الناس مصانة، والحكم العسكري يتصرف بعقلانية يحسد عليها.
الخارطة الحزبية مشوشة، ففي بلاد الفن والثقافة والانفتاح يفوز الإسلاميون بالسيطرة على البرلمان، وتحت قبة السيطرة الدستورية يمنع قادة معروفون من ممارسة حقهم في الترشح، ويجازف أشخاص بلا سند حزبي بخوض معركة الانتخابات الرئاسية مقابل تيارات حزبية حصدت نتائج الانتخابات البرلمانية! ولم يوفق المجلس الأعلى للقوات المسلحة في كسب شهادة الناس بتوفير ظروف انتخابات رئاسية نزيهة، على الرغم من فوز الإخوان المسلمين في البرلمان!
الأفكار الثورية التي عمل عبد الناصر ورفاقه على تصديرها إلى الدول العربية ثبت أنها موجودة بقوة في مصر، بعد أكثر من أربعين عاما من حكم يوصف بالتفرد والديكتاتورية، وهو توصيف ليس بعيدا عن المبالغة. والثورية تنطلق من حماس الشباب وحكمة الشيوخ في حالات معينة أيضا. إلا أن ما يجري على الساحة المصرية يدل على استغلال مفرط لعقلانية العسكر من قبل مجموعات ربما تكون غير معروفة الهوية. لقد أتاحت لي الظروف المشاركة في زيارات مبرمجة عدة لأعلى القيادات العسكرية ولتشكيلات ميدانية في عهدي الرئيس السادات والرئيس مبارك. وبحكم الاختصاص التقيت مرارا أجهزة المخابرات منذ ثلاثين عاما، مما وفر لي أرضية معرفية عن الوضع العسكري المصري نوعا ما. أما المشير طنطاوي فلم ألتقه إلا مرة واحدة، حيث جمعنا الانتظار في غرفة صغيرة تمهيدا لحضور دعوة غداء أقامها الرئيس السابق مبارك في القصر الجمهوري. ومع أن القادة المصريين كانوا محط إعجابنا، فإن إدارتهم لمصر خلال ثمانية عشر شهرا اتسمت بحكمة يحسدون عليها، بعيدا عن فطرة الحسم عند العسكريين.
وكان بقاء القوات المسلحة على تماسكها هبة من السماء، فلولاها لدفع العالم ثمن الانفلات، مع وجود مجموعات من الغوغاء لا يرضيها إلا انتشار الفوضى وغياب السيطرة. وهذا النمط من المجموعات ينبغي أن تتبرأ منه الكيانات السياسية بكل أطيافها، وتتصدى له قبل أن تزج القوات المسلحة برجالها لحماية الأمن العام، وهذا يتطلب هدوءا وخفضا لسقف مطالب الأحزاب خلال فترة الانتقال السياسي، فعدم الوصول إلى الحكم لأربع سنوات لا يمثل مشكلة مقابل الفوضى وإرهاصات الخلل الأمني.
ويمكن وصف وضع القوات المسلحة الآن بأنها أقرب إلى الوضع الدستوري والمعنوي للقوات المسلحة الباكستانية والتركية، وهي تجربة لها خصوصية التعريف على مستوى دول العالم الثالث، التي لا تزال في حاجة إلى من يحمي الديمقراطية الفتية من الانحراف والهيمنة والاستبداد. وينبغي الحرص على ديمومة هذه الصفة حتى تهدأ نفوس الناس ويثبت السياسيون واقعية برامجهم، بعيدا عن الاستئثار الحزبي. فدولة مثل مصر لا تحتمل حكم الأكثرية، لأن أقلية كبيرة عدديا ستشعر بالتهميش، وتصبح قواسم المواطنة وشروطها في قفص الاتهام.
لذلك، فليتول إدارة البلاد من يفوز في الانتخابات، مع بقائه بعيدا عن ثلاثة مجالات حيوية من مجالات الدولة، هي: العسكر، والأمن، والقضاء. فأمة بلا قضاء عادل ومستقل لا تمثل قيم السماء ويستحق سياسيوها اللعنة. ولا هيبة ولا أمن خارج نطاق حقوق المساواة بين البشر. وهذا ليس نقصا ولا انتقاصا من حقوق الفائزين، بل ضمان لهم لتجنب اتهامات بالظلم والاستئثار بالسلطة والاعتداء على حقوق الناس.
وإذا ما وضعت القوات المسلحة تعهداتها الجديدة بتسليم السلطة إلى الرئيس الذي سينتخب قبل نهاية الشهر، فستكون قد تفرغت لفرض الأمن، والتنسيق المباشر مع القضاء لضمان هيبته وسلطته ضمن حدود الدستور. ويمكن أن تفضي الحالة بعد «عشرات السنين» إلى تراجع دور القوات المسلحة إلى الواجهة الخلفية، على غرار ما هو سائد في الدول الديمقراطية العتيدة.
فلا تسلموا سلطة العسكر والأمن والقضاء يا سيادة المشير حتى تستقر النفوس، ففي هذا حماية للكتل السياسية، وأولاها الكتلة الأكبر التي ستكسب من تفرغها للعمل الإداري والخدمي، فتزداد شعبيتها أو تتقلص طبقا للمتحقق.