آراء حرة
د . أماني فؤاد تكتب : أحلام فرح
منذ دقائق أرسل لها الطبيب الشهير يقول :” أفتقدك للغاية ، أين أنت ؟ هل تتعمدين تجاهلي ؟ لم ترد .. ربما شعرت أن الرسالة قد وصلتها خطأ ، لأن المساحة التي بينهما لا تسمح بحوار علي هذا النحو ، وإن كان يقصدها .. فهي لا تبالي ، تشعر أن كل نزوة بتلك الخفة تستهلك من أعمارنا القصيرة ، تُفضي إلي ابتذال ذواتنا إن لم تكن هناك مشاعر حقيقية .
لكنها فجأة تذكرت الحلم الذي رأته منذ فترة طويلة ، وقتها قصته علي حبيبها ، وضحكا منه معا ، هل يمكن أن تتيح لنا الأحلام أن نري المستقبل بصورة ما ؟ تلقي بومضات مما يمكن حدوثه بعد سنوات ؟ اعتاد “عليّ” دوما أن يفكك أحلامَها ؛ ليتركها بيضاء نقية بلا قلق كلون بشرتها التي عشقها ، وربما كان يفضل أن تقص عليه أحلامها ليعرف المناطق المسكوتة عنها في حواراتهما ، عالمها الذي لا يمتلك كل تفاصيله .
رويدا بدأت ذاكرتها تستحضر الحلم الذي كان .. ، ما تطويه الأيام في لفائفها السحرية ، ويقتات منه الزمن بشراهة . المشهد الأول : كانت قد رأت حبيبها قادما نحوهما مسرعا ، ألقي تحية مقتضبة ، والتفت إليها قائلا : “فرح” تعالي معي ، أريدك في التو واللحظة ، استمهلته بعينيها لحين الانتهاء من حديثها مع أستاذها د . “مختار الفيومي” بعد انتهاء المؤتمر الذي أعدته معه ؛ فلقد سبب لها حرجا ، الرجل الذي بدوره دعاه للجلوس معهما بلا تردد . بابتسامة مقتضبة أنهي ” عليّ ” الحديث مستأذنا في الانصراف ، وعقد أصابعه علي يدها وأخذها واستأذنا.
استوقفته ــ بعد أن ابتعدا قليلا ــ تريد أن تستفسر صنيعه المباغت ، قالت له : لم أكمل قهوتي ، أغمض عينيه ووقف عنيدا ، قال : أنتي لي وحدي ، لا أطيق رؤيتك تجلسين مع بشر سواي .. همت أن تنطق .. وضع يده علي فمها وجذبها وتوالت خطواتهما ، دون أن يقص عليها شيئا ذا بال . حين وصلا إلي باحة الانتظار بالفندق الذي عقدت فيه جلسات المؤتمر وجدت سيارته قد تبخرت ، وإذا بهما في المشهد الثاني مباشرة : في ساحة أحد القصور الباريسية المطلة علي البحر يقفا و السعادة تتقافز من أعينهم ، يحتضن خصرها بأحد ذراعيه ، وبالأخري يحاكي وضع أحد التماثيل الناطقه بالحياة والقوة ، كان جسده جميلا يضاهي شراعا يخترق موجة صاخبة بثقة وإصرار ، يشرح لها مسترسلا فلسفة الحرية في نحت الحضارة اليونانية القديم ، تبتعد عنه خطوة ، ثم تأخذ الوضع المستقيم لتمثال الملكة الفرعونية ” نفرتاري” ، تضحك وتقول له أعشق فكرة مقاومة المصريين للفناء ، نحت بلا حركة ، فن للبقاء ، يقترب منها ثانية ويجذبها إليه : لا أطيق أن تستنشق أنفي سوي رائحتك ، لا تبتعدي ثانية .. فتلتصق به سعيدة . تعلم أنه يؤرقه دائما أنه لا يعيشها إلا نُذرا ، إلا قليلا كما كان يقول ، وحينما تسمح ظروفها هي .. تهمس في أذنه : تفتنك الحرية ، وتؤمن بالثقافة أسلوب حياة ، وفي حبك لي تتبخر الحرية..هل تعشقني أم تستولى عليك غريزة التملك ؟ التقط شفتيها قبل أن تنهي كلماتها وهو يضمها إلي صدره بقوة ، حتي كادت عظامها تشكو إليه ، ثم قال : إلا أنتِ ، لا يعنيني امتلاك شيء من هذا العالم سوي الاستحواذ علي قلبك ، أن تظلي في عيوني ، أشعر أني أغار حتي من ملابسك ، هذا الحرير الذي تضعينه علي رقبتك ، أرقبه تُري طرفه يمكن أن يلامس فيكِ أكثر مما يمكن أن أسمح له به .
هل تعلمين لم أسخر من معنى في حياتي قدر سخريتي ممن يعتقدون في الديمومة والأبدية ، حين عشقتك صرت أكثر تعاطفا مع القيمتين ، لكني لم أزل أحسبهما هُراءا ، يحارب بهما البشر فناء كل الأشياء ، سطوة الزمن وتغير محتواه .
لذا أعبئ لحظاتي معك بكل زخم الحياة ، أقبض عليها لأني لا أدرك ماذا تخبئ اللحظة التي بعدها . المشهد الثالث : أمام كوخ صغير علي الشاطيء ، وتحت هياج لموج المحيط الصاخب ، كانت بمفردها تستمع للحن رحباني ، تضفره “فيروز” بصوتها فيتصاعد مع رذاذ الموج إلي السماء ، تنتبه لتبحث عنه فيطل وجهه من القمر ، ثم يأتيها .. فتقف لتضمه بين يديها ، وتلامس شفتيها عاشقة كل ملامحه ، حتى فكه السفلي الذي كان يكتنز مناطق القسوة والتحدي فيه ، يقول وكلماته تستقر بين شفتيها : وجهك مثل صفحة البحر، جميل حد التلون بألوان قوس قزح، ورقراق في تمهل ، يغري في البداية بالسير فوقه ، لكن حتى المتصوفة ليس بوسعهم سوى السقوط في نشوة كائناتك الداخلية .
يتجهان نحو الكوخ وأمواج المحيط الثائر كجدران الحياة ، هادرة لكنها ذات سيولة ، لا تمكَّن من الإتكاء عليها ، ما أن تدلف من باب الكوخ حتى تجد نفسها قد ارتدت زي غرفة العمليات ، ومريض مسجى علي الطاولة يناديها قلبه أن تستأنف عملها ، وهناك من يناولها المشرط وأحد المقصات ، التفت تبحث عن حبيبها لم تجده ، فقط وجدت ” مختار الفيومي ” يستحثها أن تبدأ في إجراء الجراحة … ثم تصحو من نومها . تعجبا بعد أن قصت عليه الحلم وقتها ، وضحكا معا من سرياليته ، ثم قال : لن يستطيع أحد أن يشغلك عنا حتى هذا ” الفيومي” ، فاعترتها نشوة غامرة . قطع جرس الهاتف ذكرياتها ، فألقت عيناها نظرة علي ساعة الحائط وجدتها الحادية عشر ، هو نفس الموعد الذي كان ” عليّ ” منذ زمن يستهل به يومه مع صباحاتهما الخاصة وصوتها قبل أن يبدأ محاضراته في علم النفس ، التقطت السماعة وقلبها يرتجف .. لعله يكون هو ، جاءها صوت عميق خشن : لم لا تردين علي رسائلي ؟ أين أنت ؟ هل أنت بغرفة العمليات يتكلم يخبرها بترشيح “الجمعية الجراحية العالمية” لهما لإعداد المؤتمر السنوي لأبحاثها الدولية معه بعد ثلاثة أشهر ، يتكلم .. وأذنيها تسترجع آخر مكالمة لها مع “علي” : عفوا لن أستطيع أن أكمل ، كيف يمكن أن تستمر الحياة أحلام وأحلام ..، لا يكفيني هذا القليل. تلتقط القلم لتكتب عنوان الفندق الذي سيقام به المؤتمر ، ثم تكتب في السطر الأخير ” إن هي إلا سريالية الحياة ” .