كتاب 11
مصر من مراهقة الثورة إلى رشد الدولة
مصر دولة قديمة ممتدة فى الزمان وفى المكان، وكما حفرنا فى المكان قناة السويس لوصل مياه الوطن بعضها بعضا، آن لنا أن نحفر قناة فى الزمان تصل تاريخنا بعضه بعضا، ليتم صهره فى بوتقة هوية واحدة، هى هوية الدولة المصرية والمواطن المصري.
نحن أقدم دولة ومجتمع فى منطقتنا، فكيف يستقيم للعقل اننا نعانى أزمة هوية. نحن لا نعانى فقط أزمة هوية، وإنما نعانى أيضا أزمات أخري. الدولة المصرية الحالية تعانى ست أزمات لا بد من مواجهتها، إذا كانت لدينا النية والإرادة بأن ننتقل بمصر من مراهقة الثورة إلى رشد الدولة. أولاها إعادة بناء الشخصية المصرية ليس من منظور تفوق عرقى أو تاريخى أو ثقافي، وإنما إعادة بناء الشخصية المصرية حول منظومة حديثة من القيم التى تصبح مع الوقت هى العلامة التجارية، أو (براند) لكل ما هو مصري، كالشخصية الإنجليزية مثلا أو الأمريكية حين يقال ان هذا السلوك غير إنجليزى أو غير أمريكى أى يتنافى مع القيم الأمريكية أو الإنجليزية المتفق عليها. إعادة بناء الشخصية المصرية لتتمحور حول منظومة من القيم هى التحدى الأول للنظام الجديد الذى نريده فى مصر ما بعد الثورة.
الأزمة الثانية التى نعانيها والتى يجب الالتفات لها سريعا من أى نظام جديد، هى أزمة جغرافية فى المقام الأول. فمنذ فترة ليست ببعيدة قررنا طواعية أن نختزل هذا الوطن الكبير فى مدينة واحدة، وهى القاهرة، لم يحاصرنا عدو خارجى ويفرض علينا أن نصبح دولة مدينة واحدة، بل فعلنا ذلك بأنفسنا. أصبحت الدولة المصرية وخصوصا خلال الاعوام الثلاثين الفائتة، هى دولة القاهرة فقط محاطة بها مجموعة من المنتجعات الصيفية والشتوية التى يذهب اليها أهل القاهرة فى رحلات الشتاء والصيف فى أسوان وشرم الشيخ والساحل الشمالي، شيء أشبه بفكرة الباشا القديم الذى يذهب للعزبة فى الأرياف للنزهة ثم يعود الى القاهرة، كما فى أفلام الأبيض والأسود. تحويل الوطن إلى مدينة واحدة جريمة فى حق الوطن، فليس من المعقول أن كل رسائلنا الإعلامية والسياسية تتمحور حول القاهرة ونطالب الناس أن تساعدنا فيما يحدث فى سيناء او نبنى تحالفا يدافع عن مثلث حلايب وشلاتين؟ اذا كانت الشمس هى القاهرة والباقى اقمارا صغيرة أو مقاطعات تدور فى فلكها فهذه ليست صيغة وطن، بل صيغة عاصمة تهيمن على أقاليم مع الوقت قد تنفصل عنها أو تقل الروابط فيما بينها ونصل إلى الصيغة التى وصل إليها اليمن الآن كسيناريو أسوأ. هذه الأزمة المكانية يجب أن تكون أولوية فى بناء الدولة الجديدة. لايكفى ان نقول إن المشير السيسى أو أى مرشح رئاسى سيعلن عن ترشحه من الصعيد أو من الدلتا أو سيناء أو الواحات، الأساس هو برنامج العمل الذى يدمج هذه المقاطعات فى صيغة وطن تتساوى فيه المدن وليس مجرد مقاطعات تابعة (للوالى العثمانى فى القاهرة).
الأزمة الثالثة هى أزمة شرعية، وهنا لا أقصد شرعية جماعة مرسى أو شرعية انتخابات، بل صيغة التراضى بين الحاكم والمحكوم من خلال مؤسسات وسيطة محل ثقة. دعنى أفسر هذه النقطة قليلا. نشترى كل يوم كتبا أو تذكرة طائرة من خلال بطاقة الائتمان (الكريدت كارد)، والسؤال هنا: ما الذى يجعل مكتب الطيران أو الشركة الاجنبية التى تبيع الكتب او السيارات أو اى بضاعة أخري، تثق فى هذه البطاقة التى هى مجرد قطعة بلاستيك؟ الشركات تثق فى قطعة البلاستيك لأن البنك الذى اصدرها كفيل بالدفع وضامن لها. البنك كمؤسسة وسيطة يجعل لقطعة البلاستيك قيمة. فكيف نصنع مؤسسات بديلة تضمن للرجل الذى فى القرية أن صوته ورأيه فى الحكم يصل للحاكم فى القاهرة، وأن الخدمات التى يعد بها هذا الحاكم مضمونة الوصول إلى مستحقيها. بناء مؤسسات الثقة الوسيطة التى تحظى بثقة الحاكم والمحكوم فى تجسير العلاقة هى الأساس فى بناء الدولة الجديدة.
الأزمة الرابعة، هى مؤسسات التوزيع التى توصل المستحقات الوطنية الى المواطنين، وهى ليست مشكلة فقر أو غنى وإنما مؤسسات توصيل للمستحقات وتعانى هذه المشكلة الدول الغنية والفقيرة على حد سواء. فى كتاب متميز للاستاذة «كارين تشودري»، والذى كان بمثابة رسالة دكتوراه تقدمت بها لجامعة هارفارد فى سبعينيات القرن الماضي، ناقشت فيها الدولة السعودية الحديثة ووجدت أنه رغم الغنى إلا أن الدولة السعودية تعانى من ضعف مؤسسات توزيع الثروة. اذن قد تكون لديك الأموال وليس لديك المؤسسات التى توصل هذه الأموال الى مستحقيها، ليس لأنك كحاكم أو كدولة لا ترغب، ولكن لأن مؤسسات التوزيع ضعيفة.
الأزمة الخامسة التى نعانيها وهى قريبة من أزمة دولة المدينة المتمثلة فى سيطرة القاهرة هى أزمة التغلغل، اى ان تكون الدولة متغلغلة فى كل أراضيها المعترف بها دوليا. لدينا حوار أبله حول مفهوم «الدولة العميقة» المنقول من النموذج التركى والذى يعبر عن تغلغل الجيش والمخابرات فى اجهزة الدولة، وهذا حديث طويل.. ولكنها ليست أزمتنا، فبالعكس نحن لدينا أزمة نقص فى العمق، حيث هناك أناس فى الأطراف فى سيناء والصعيد ليست لديهم بطاقة هوية، واذكر أننى رأيت هذا بعينى فى الصعيد خلال السنوات الاربعين الفائتة، حيث كان الفرد يدخل الجيش احيانا نيابة عن أخيه إذا كانت الأسرة مسجلة، وقد لايدخل لأن أسرا بكاملها غير مسجلة، الناس دخلت عالم تسجيل الأسماء فى فترات القحط من أجل صرف التموين من زيت وسكر فى الفترة الناصرية. فى سيناء والواحات مازال عدم التسجيل قائما. فما بالك بحلايب وشلاتين والبشارية فى إدفو وأسوان.. إلخ. الدولة عندنا ليست عميقة أفقيا كما يتصور البعض ونحتاج فى الدولة الجديدة أن يكون كل المواطنين شركاء.
أزمة أخيرة، هى أزمة المشاركة، وهنا لا أقصد المشاركة السياسية بمعنى صندوق الانتخاب، بل أقصد الإحساس بالشراكة الوطنية فى بناء وطن جديد من خلال مشروعات وطنية يحس معها الفرد انه لا يبنى لوطنه فقط إنما يبنى لنفسه.
هذه تحديات تفرض علينا جميعا أن ننتقل من الحالة السائدة التى أسميها حالة »مراهقة الثورة« إلى حالة »رشد الدولة«، التى نبنى من خلالها وطنا جديدا ومواطنا جديدا.