مصر الكبرى
نذير شؤم: ولماذا دول الربيع ؟
لماذا كل هذا العداء وكل هذه المظاهرات في دول الربيع العربي التي أسهمت أميركا في تحريرها، على حد قول هيلاري كلينتون؟ بداية كان من الممكن لهذه الأحداث العنيفة، بما فيها مقتل السفير الأميركي في بنغازي، أن تحدث دونما ظهور الفيلم المسيء للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وكان من الممكن أن يحرك هذا العنف الكامن أي محرك آخر، وذلك لأن المنطقة تمر بحالة ضباب الثورة، وهو شيء أشبه بضباب الحروب الذي تتوه معه الحقائق ويقتل الناس بعضهم بعضا دونما تمييز بين عدو وصديق.
للثورات فترة ضباب مثلها مثل الحروب، يقتل فيها الصديق صديقه دونما قصد، ونحن في تلك الفترة في دول الربيع، فالثورات في دول الربيع عمل لم يكتمل بعد، كما أن مرض الديكتاتورية متجذر لم يبرأ منه لا من هُزموا وتركوا المناصب، ولا من تولوها وتمكنوا من الحكم. ديكتاتورية دول الربيع كانت أشبه ببئر عفنة مغلقة، هذا إذا اخترنا تعبيرا أقل قبحا، وما إن فُتحت حتى طفت على السطح كل الطحالب وكل العطن. وما نشاهده الآن هو أن الساقية تدور وتغرف من مياه هذه البئر العطنة وتخرجها إلى السطح، وما زال في البئر عفن كثير مطلوب رفعه حتى نصل إلى المياه الصافية، وهذا أمر يتطلب وقتا طويلا، ويجب أن نعوّد أنفسنا على أن القادم ولسنوات سيكون من نفس العطن، فلن تتحسن الأحوال حتى يخرج أسوأ ما في بئر الديكتاتورية. ما نراه الآن وما سنراه لفترة هو مزيد من العفن.
هناك محركات أخرى، غير مجرد فتح فوهة البئر، تزيد من انتشار رائحة العطن. وأول هذه المحركات تلك الفجوة الكبيرة بين التوقعات التي كانت لدى الشباب من الثورات وحجم ما حصلوا عليه منها. تلك الفجوة هي التي تؤدي إلى إحباطات ويأس مرير، هي محرك أساسي للعنف، وهي باقية سواء كان المحرك فيلما معاديا للإسلام أو أي محرك آخر، فالناس يبحثون عن ذريعة ليقولوا للعالم إنهم ظلموا، وإن نتيجة هذه الثورات لم تلب طموحاتهم. هناك أيضا الفجوة بين رؤية الشباب الذين يمثلون أغلبية السكان، والشيوخ الذين يحكمون، فهذا جيل وذاك جيل آخر، وبينهما أجيال. بعد المسافة بين جيل الأحفاد المحكومين وجيل الأجداد الحاكم يجعلهم يتحدثون لغة غير اللغة، ورغم أنهم جميعا يتحدثون اللغة العربية فإن لغة الأجداد بالنسبة للأحفاد تبدو لغة ثانية غريبة كاللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وربما لو أردت الدقة هي أقرب إلى اللغة البرتغالية منها إلى الإنجليزية. وفي غياب لغة مشتركة للتواصل سنرى في الفترات القادمة مزيدا من الصخب والعنف.
يتحدث العالم عن تلك الفجوة الحضارية بين الشرق والغرب، بين الغرب والإسلام، لكن الفجوة الثقافية بين المسلمين بعضهم بعضا أعمق بكثير من تلك الموجودة بين الشرق والغرب، وهذه أزمة حضارية لم يمنحها البعض الوقت الكافي لفهمها بعد. ومع ذلك لا يجب التقليل من حجم الغضبة التي أثارها الفيلم المسيء في نفوس كل المسلمين، الصالح منهم والطالح، فهذا سلك كهربائي مكشوف متى ما لمسته اشتعل الحريق، وعلى الغرب وعي هذه الحقيقة، وعدم الاستخفاف بها.
واهم من يتصور أن الثورات انتهت بهروب زين العابدين بن علي من تونس، أو تنحي مبارك عن الحكم، أو موت القذافي. ثورات الربيع هي تقليب لعطن قديم في تلك البلدان ستستمر تبعاته لفترة طويلة.
عندما قتل القذافي كتبت عن عادات القبائل الأفريقية في دفن الأرواح الشريرة، وقلت إنه في حالة موت روح شريرة مثل روح القذافي يسحب الميت من داره من قدميه ويمر به أهله في طرق ملتوية حتى لا تعرف الروح الشريرة طريقها إلى البلدة مرة أخرى، ويزرع الطريق من القبر إلى البيت بالأشواك زيادة في الحيطة. وبكل أسف لم تسحب الديكتاتورية من أقدامها من أجل قبرها بعيدا، ويبدو أنها عرفت الطريق مرة أخرى لتعود الأرواح الشريرة إلى الأماكن ذاتها وتبدأ دورة العنف مرة أخرى.
جزء من مشكلة دول الربيع العربي هو أن الإعلام في تلك الدول ما زال هو إعلام التهييج (mobilization media). إعلام على حاله كما كان أيام الديكتاتورية، وظيفته الأساسية إما تهييج المشاعر أو تبرير أفعال الحاكم، ولم ينتقل بعد إلى إعلام الأخبار والمعلومة كما هو الحال في بلدان العالم الحر. كما رأينا وشاهدنا في قصة الفيلم المسيء لمشاعر المسلمين أن قناة تلفزيونية عرضت جزءا من الفيلم، وقام أحد الدعاة المشهورين بتأجيج الغضب وتهييج المشاعر بعد كل عرض مكرر لتلك الدقائق القاسية من فيلم منحط أقرب إلى أفلام البورنو منه إلى الوثائقي، ولم تقل تلك القناة للناس متى أنتج الفيلم، ومن أنتجه، وفي أي ظروف، فقط تعالت الصيحات من أجل نصرة دين الله كما يتصور دعاة الفضائيات، لينطلق الشباب في الشوارع حاملين قنابلهم اليدوية، مشعلين النار في ما يرونه أمامهم. وهذا النوع من الإعلام هو جزء من العفن الذي ينضح من بئر الديكتاتورية التي كانت مقفلة بإحكام قبل ثورات الربيع، وحتى يخرج ما في بئر الإعلام من عطن ونصل إلى إعلام الماء الصافي أو المعلومة فسنرى من ذلك الكثير، ولنعد أنفسنا لذلك.
المشكلة الثانية والأكبر هي أن دول الربيع التي تمر بمرحلة ضباب الثورة تقترب من الدول الفاشلة أكثر من كونها دولا في حالة تحول إلى الديمقراطية كما يدعي بعضنا، فهي في معظمها دول هشة كانت تحكم بالانطباعات وليس بالحقائق. فمن كان يتصور أن بن علي سيهرب، أو أن نظام مبارك سينهار في ثمانية عشر يوما، أو أن الرئيس مرسي سينفخ في المجلس العسكري فيتبخر في لحظة؟! نمور من ورق تتهاوى أمامنا، مما يشجع أي مجموعة مسلحة على محاولة اختبار الوضع القائم، حيث تبدو إمكانية إزاحة أي فرد عن الحكم لأن ما كان يقال عنه إنه نظام قوي في السابق تهاوى أمام الأعين في ساعات. إذن كل شيء ممكن، ممكن الانقلاب على «الإخوان» في مصر، وعلى النهضة في تونس، وعلى النظام الوليد في ليبيا.
وإذا كانت هذه الأنظمة نمورا من ورق فهذا لا يمنع أن تختبر بعض الجماعات تلك القوى التي تقف خلف هذه الأنظمة، وهنا تأتي مسألة الاعتداء على المصالح الأميركية لمعرفة ما إذا كانت أميركا نمرا حقيقيا أم أنها هي الأخرى نمر من ورق. الاعتداء على سفارات الدول الغربية من القوى الجهادية المسلحة هو اختبار لرد فعل هذه الدول، ومن دون رد فعل سنرى الكثير من هذه الهجمات على مدى الأيام المقبلة.
ما يفوت النشطاء في دول الربيع هو أن هذه الأحداث وهذه المظاهرات وهذا العنف يحدث في سياق عالمي معقد. نرجسية الثورة تجعل البعض يقرأ الأمور من منظور محلي فقط، لكن الأمور في أميركا مثلا لا تقرأ بالطريقة التي يريد «الإخوان» قراءتها بها من القاهرة أو بنغازي. فعندما ترفع أعلام «القاعدة» السوداء على السفارة في القاهرة ويقتل السفير الأميركي في بنغازي في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، فإن الأميركيين لا يرون الفيلم المسيء لمشاعر المسلمين، لكنهم يرون صورا أخرى.. يرون الطائرات وهي تدخل برج التجارة العالمي وتحوله ومن فيه إلى كرة من لهب.. يرون الرهائن في طهران.. ويرون مقتل المارينز في بيروت. سياق آخر مختلف تماما، إضافة إلى أن هذا السياق المرعب يحدث في وقت تبرز فيه منافسة سياسية حامية على الرئاسة فيها درجة عالية من الانتهازية السياسية التي لا تتورع في استخدام كل الأسلحة من أجل أن تكسب الرأي العام. ومن هنا علينا أن نتذكر صورة السفير الأميركي المقتول في طرابلس وما أشيع حولها من شائعات. فكما كان اغتيال أحمد شاه مسعود في أفغانستان نذيرا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي هزت العالم، فإن من ينظر إلى وجه أوباما وهيلاري كلينتون في مراسم استقبال جثمان السفير الأميركي بالأمس لا تفوته ملاحظة أن مقتل السفير هو أيضا نذير شؤم لا يقل قليلا عن اغتيال أحمد شاه مسعود.
فرحت أميركا كثيرا بدول الربيع، وفرح عرب الربيع بأميركا، ولكن على ما يبدو فإن القادم سيطيل من فترة ضباب الثورة، وربما ضباب الحرب، بشكل لم يكن في الحسبان عندما رفعنا هذا الغطاء عن بئر الديكتاتورية العفنة.