كتاب 11
همجية الشوارع
القوانين توضع لتنفذ، والافتراض هو أن السلطة، ممثلة بالشرطة والجيش وقوات الأمن وفرق الرقابة الصحية والبلدية وغيرها، لا تستطيع أن تغطي كل متر على الأرض، ولا تقدر على فرض شخص ممثل للسلطة يراقب كل فرد.
هي سلطة ضمير واحترام للذات قبل كل شيء، وما لم ينبع الالتزام بالقانون من احترام داخلي عميق، فلن تنفع كل أجهزة الشرطة وكاميرات المراقبة في ضبط سلوك الإنسان الذي قرر سلفا خرق القانون.
هنا يكمن الفرق بين الإنسان المتحضر والإنسان الهمجي، بين المجتمعات الراقية والمجتمعات المنحطة. وهنا أيضا يكمن الفرق بين مستوى ترقي الدول، هناك دول تخضع للقانون وتقاتل من أجله، دون تمييز بين طرف وطرف.
حينما تجد شخصا يلقي ببقايا الطعام أو الأكواب الفارغة من نافذة سيارته في الشارع، فهذا لن تجدي معه كل نصائح الأرض، وحينما تجد من يضرب عرض الحائط بأنظمة السلامة المرورية، ويمارس «إرهاب الشوارع» وكأن الطريق ملكه وملك أبيه، فهنا نخرج من إطار النقاش حول القانون إلى النقاش حول «الآدمية» نفسها!
المفترض أن يخضع الإنسان، احتراما لذاته قبل كل شيء وحفاظا على «المصلحة العامة»، للقانون، فهذا القانون وضع لخدمة المجموع وليس لخدمة فرد معين.
هذا هو المفترض، لكن ليس كل الناس على هذه السوية من الرقي، ففيهم المنحط، وفيهم الهمجي، وفيهم من لديه أفكار خاصة به حول القانون الذي يجب احترامه والقانون الذي يجب احتقاره. لكن الدولة تراعي المصلحة العامة ولا تحفل بمثل هذه الغرائب من الأفكار، ولا تهمل معاقبة من يحتقر القانون، حفاظا على مصالح النسبة الكبرى من المجتمع.
تخلفنا العام، حالة ممتدة من أصغر الأشياء لأكبرها.
ماذا تسمي من يركن سيارته في وسط الطريق العام؟
ماذا تسمي من يسد بسيارته مخرجا وحيدا للطريق، لأنه يريد تمضية بعض الوقت داخل المطعم وليذهب الطريق وسالكوه إلى الجحيم؟
ماذا تسمي من يمشي عكس السير بسرعة رعناء؟
ماذا تسمي من يقطع إشارة المرور وربما تسبب بهلاك نفسه وهلاك غيره؟
ماذا تسمي من يقف بسيارته في الموضع المخصص لمواقف المعاقين؟
بل ماذا تسمي من قرر فجأة أن يستعرض مهاراته في الحمق والجنون ويحول السيارة إلى وسيلة جمباز مروري ووسط الطريق العام؟
هذه المظاهر وغيرها ليست سلوكا هامشيا لا علاقة له ببقية مظاهر التخلف العامة، في السياسة والثقافة والتدين والإعلام.
كلها حلقات آخذ بعضها برقاب بعض.
المتخلف هنا هو المتخلف هناك، الهمجي هنا هو الهمجي هناك، المراوغ هنا هو المراوغ هناك.
انظر كيف تمشي في الطريق وكيف تحترم إشارة المرور، دون خوف من كاميرا «ساهر»، بل خوفا من سقوط احترامك لذاتك أمام نفسك، انظر كيف هو سلوكك في هذا كله، وستفهم أين نحن وإلى أين نحن ماضون؟