كتاب 11
مفكرة دبي: السر الكبير
في الحديقة إلى جانبي طيور وعصافير ألوان ألوان، وأحجام أحجام. عرفت منها البلابل، التي كتب لها الأصمعي الشعر على وزن تغريدها، كما عرفت الغربان الناعقة بظلها الثقيل. النعيق ضريبة التغريد. وجميعها، أي الطيور والعصافير، تحط على طاولات النزلاء، تشاركهم في الفطور. هذا مطعم فندق القصر في التاسعة صباحا. أهلا بكم جميعا في دبي، نزلاء من جميع الأعراق، عمالا من جميع البشرات.
عرفت هذا الصباح سرّ دبي، أو هكذا أدعي. كنت أقرأ في أحد كتب التاريخ وفيه أن حديقة الطيور هذه كانت عام 1900 فضاء من الرمل والمضارب، وخورا مهجورا إلا من الرطوبة. وخطر لحاكمها مكتوم بن حشر أن السبيل الوحيد للخروج من العزلة هو إقامة ميناء مفتوح للجميع. كانت السفن البريطانية تتوقف مرتين في السنة، فصارت تتوقف مرتين في الأسبوع. طور الشيخ راشد ثقافة الميناء المفتوح. ومع تطور حركة الطيران، أضاءت دبي ميناءين: بحريا وجويا.
محمد بن راشد طور الميناء والمطار إلى إقامة مفتوحة. تعالوا اعملوا وعيشوا وابنوا معنا أكبر ورشة عمار في الشرق. تريدون أبراجا؟ نبني أبراجا. تريدون جزرا مثل البندقية؟ نبني جزرا مثل البندقية. قال لي الزميل عبد الله بجاد: «عندما أخرج من كتبي متعبا في المساء أذهب إلى مركب صغير وأقول لصاحبه: بهدوء وبطء. في هدوء وبطء. وبعد أربعين دقيقة أكون قد تركت أحمال النهار المركب».
ليست دبي جنة سياسية مثل التي كان يعدها «الإخوان» لمصر أو حتى للإمارات. لا سياسة هنا إلا على الفضائيات. تستطيع في لبنان أن تتخم بالسياسات. وتستطيع أن تقتل الطيور والعصافير المقيمة والمهاجرة، بالكلاشنيكوف إذا شئت. هنا تستطيع فقط أن تشاركها فطورك. بماذا تذكرك دبي؟ قبل أن أجيب عن السؤال، خرزة زرقاء إذا سمحت. أنا تذكرني بموانئ المشرق، بالإسكندرية وبيروت وإزمير. وهذه الإشراقات دمَّرتها جميعا السياسات والأوهام والانغلاقات والعصبيّات والقبليّات والبطولات الفارغة. ثلاث مدن توهَّج بها المتوسط منذ الأزمان، ثم أُفرغت من جواهرها وأظلم بريقها. ظلت الإسكندرية مدينة العلوم منذ أن أوصى الإسكندر ببنائها. ظلت مدينة المنارة الكبرى والمكتبة الكبرى والمدارس الكبرى. ثم صارت مدينة مهجورة ترفع اليافطات وترحِّل أهل العلم والتجارة والهندسة والعمار.
في جلسات مؤتمر القمة الحكومية هنا، شاهدت دائما عددا كبيرا من ضباط الشرطة والقوات المسلحة. جاءوا يتعلمون أصول الحياة المدنية. لقد أغلق العسكريون العرب أبواب الحضارات، في الإرسال وفي التلقي. وفتحوا بوابة واحدة أمام التشدد والعنف والرفض المطلق. بيروت التي أمضيت فيها طفولتي وشبابي كانت حديقة بشرية جميلة وبستانا من الأفكار وحلبة من الأشعار ومتعة النظار والأخبار. جئت إلى دبي لكي أريح النفس قليلا. أطبقت على صدري أخبار لبنان في جهاته الأربع. وكانت مفاجأتي الكبرى، العصافير والطيور وصوت صفير البلبل، وتعرفون باقي القصيدة. كلما نسيتها يُرسل إلي محمد الشارخ نسخة منها. أو رواية جديدة. هذا صديق يُحسن تقاعده أيما حسن. قراءة وكتابة وسفر ودفاع عن اللغة العربية على جميع جبهات الكومبيوتر والإنترنت.
عندما سافرت أول مرة من بيروت، شعرت بالحنين إليها ولصنوبراتها عندما حطت الطائرة للتزود بالوقود في «باري» الإيطالية. وأخذت أبعث من هناك ببطاقات البريد. وأشعر بحنين إليها الآن. على الرغم من انقسامها إلى مربعات أمنية خائفة وساحات «فكرية» متفائلة ومجنونة وملآنة بكل أنواع السموم.
استوقفني شاب في «مول الإمارات» أمس وقال، «تويتر» «ملعلع» بما تكتب عن دبي. لكن رجاء. رجاء. لا تيأسوا من بيروت. من أجلنا، لا من أجلكم.