كتاب 11
هوامش على الثورة المصرية
أكثر ما لفت النظر في الأحداث السياسية الكبيرة التي تتوالى على ساحة مصر السياسية منذ ثلاثة أعوام بالضبط، في مطلع العام ،2011 هو السرعة القياسية التي أطلقت ثورتين شعبيتين عارمتين، في هذه الفترة، شديدة القصر في حياة الشعوب، إلى إزاحة نظام حكم حسني مبارك بعد استمرار دام ثلاثين عاماً، ثم إلى إزاحة نظام حكم الإخوان المسلمين عند اكتمال مرور عام واحد فقط على ولادته .
والحقيقة أنه كان لهذه السرعة القياسية، على ما فيها من عوامل إيجابية غالبة، ناحية سلبية واحدة، هي أنها أعطت لكثير منا الانطباع الخاطئ بأن التغييرات الجذرية العميقة التي تنتظر مصر في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، قادمة بالسرعة نفسها التي انفجر بها الحدثان الثوريان الهائلان في 25 يناير ،2011 ثم في 30 يونيو ،2013 وقد أدى هذا الانطباع الخاطئ، إلى إيجاد حالة من الإحباط المبكر لدى بعضنا، أو الكثير منا، على أساس أن التغيير المنتظر لم يأت بعد .
إن الأوضاع القائمة في مصر، والتي داهمها التحرك الشعبي الجارف في 25 يناير، هي حصيلة أربعين عاماً من الثورة المضادة لثورة 23 يوليو، والتي أطاح فيها أنور السادات على مدى عشر سنوات كل الركائز الأساسية، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، التي قامت عليها فترة حكم جمال عبد الناصر وثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952 .
إن الدخول المصري بقرار أنور السادات إلى أحضان اتفاقية كامب دافيد في أواخر السبعينات لم يضرب فقط دور مصر الإقليمي العربي، ومركزها الدولي، بل جرف منذ النصف الأول من السبعينات كل أسس الثورة الاجتماعية التي تحققت في عهد جمال عبد الناصر، من الإصلاح الزراعي، إلى الاقتصاد المبني على الإنتاج الوطني، والمراعي لمصالح غالبية الطبقات الاجتماعية للشعب المصري، وتجريف كل مفاهيم الثقافة التقدمية العصرية التي أطلقتها ثورة 23 يوليو من عقالها .
أما عصر حسني مبارك، الذي امتد لثلاثة عقود كاملة بعد السادات، فلم يكن أكثر من تعميق لكل التراجعات التي أطلقها أنور السادات في مختلف نواحي الحياة في مصر، حتى تكونت على السطح بيئة الفساد السياسي والاقتصادي، في أعلى درجاته، التي كانت الحضن الطبيعي لولادة نظرية توريث الحكم من الأب إلى الابن، وكأن مصر قد أعلنت عودتها من العصر الجمهوري إلى العصر الملكي .
إن التغيير الذي أطلقت له العنان ثورة 25 يناير الشعبية، بإطاحة رأس النظام في عصر مبارك، هو المرادف الحقيقي والدقيق، لإنهاء كل مظاهر الثورة المضادة في مصر، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بناء على القاعدة الصلبة لاستعادة كاملة لكل مظاهر ومتطلبات الاستقلال الوطني، الذي أهدره عصر مبارك إلى آخر مدى، بالدخول في تبعية كاملة للنفوذ الأمريكي، وبالتحول إلى ”الكنز الاستراتيجي” للمشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة .
وفيما كانت مصر بعد 25 يناير تتهيأ للدخول في صميم التحولات الكبرى المطلوبة لأحداث التغييرات المطلوبة، جاءت مفاجأة وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم، الذي كاد يدخل مصر في عصر جديد للثورة المضادة الجديدة لولا سرعة التحرك الشعبي الجارف أولاً، وسرعة تجاوب قيادة القوات المسلحة ثانياً .
إن هذا الاضطراب الذي عصف، وما زالت آثاره السلبية تعصف بحركة المجتمع المصري، قد جاءت تزيد من إبطاء حركة التغيير المطلوبة، حين دخلت الساحة أشكال جديدة تتمثل في صحوة بقايا نظام حسني مبارك، واقتحامهم المجالات العامة في تحرك لا يمكن إلا أن يؤدي إلى مزيد من الرجوع إلى الخلف، إلى ما قبل 25 يناير، أي عصر الثورة المضادة في أوجه .
هذه التحركات الصاخبة أدت إلى تعقيد تفاصيل المشهد السياسي في مصر، بحيث أصبح العهد الرئاسي القادم، يمثل المرحلة الانتقالية التي ستحكم ما إذا كانت مصر مقبلة على مزيد من التفاعلات أم أنها ستبدأ مسيرتها المطلوبة في طريق التغيير، واستعادة كل ركائز الثورة السياسية والاقتصادية والثقافية .