تحقيقات
«شارون» سفاح العرب وعدو القضية الفلسطينية
تعكس مسيرة شارون العسكرية التي بدأها قائدا للوحدة 101 وحتى وصوله لمنصب وزير الدفاع صورة لأقسى شخصية إسرائيلية والتي تميل إلىاستخدام البطش والقوة المفرطة. وبداية من عملية تدمير قرية كيبيا الفلسطينية عام 1953 ثم هجوم سلاح المظلات على ممر الميتلا عام 1956 وحتى احتلال بيروت خلال حرب لبنان الأولى ظلت الأوامر الدموية والتي اختلف حولها الكثيرون تتوالى وساهمت جرأته في إرساء الروح القتالية داخل الجيش والتي بلغت مداها بعبور قناة السويس مما قلب موازين حرب يوم الغفران. ولم يمر عقد من الزمان حتى تمت تنحيته من رئاسة وزارة الدفاع بعد صدور تقرير لجنة كوهين عن مذبحة صبرا وشاتيلا. ولم يتوقف شارون سواء في انتصاراته أو في إخفاقاته عن محاسبة نفسه، لكنه كان دائم الاستهانة بأوامر قادته وأخفى الحقيقة في التقارير التي يقدمها لهم.
وظل البطش وكراهية العرب والاستخفاف بآراء السياسيين الإسرائيليين سمة شارون في مسيرته السياسية التي بدأها بالمبادرة الناجحة لإنشاء حزب الليكود عام 1973. ويعتبر شارون نصير المستوطنين فقد ملأ الضفة الغربية وقطاع غزة بعشرات المستوطنات التي لا نفع منها ولا تجلب سوى الضرر. وهو من رفض كل اتفاقيات السلام التي وقعتها إسرائيل مع دول الجوار. ثم كان دخوله ساحة المسجد الأقصى صيف عام 2000 الشرارة التي أشعلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وظل خلال مسيرته الدموية يكرر العبارة التي لقنتها والدته له ” إياك أن تأمن للعرب ” .
ولكن بمجرد أن حقق حلمه وصار رئيسا للوزراء تغيرت قناعاته وجعلته المسئولية يلتزم بمعايير استخدام القوة وأولى أهمية قصوى لتوثيق علاقة بلاده بالولايات المتحدة وتجنب شن هجمات تأتي بمخاطر على بلاده. وخلافا لشخصيته المتهورة السابقة فإذا به عندما وصل سدة الحكم يتأنى في اتخاذ القرارات ولا يعمل بها إلا بعد الحصول على تأييد شعبي ورسمي من الولايات المتحدة. لذلك تأخر شارون في إعطاء الضوء الأخضر لعملية “السور الواقي ” لوقف العمليات الانتحارية ضد إسرائيل كما وافق مرغما على إقامة الجدار العازل رغم معارضته في الماضي ثم وافق على إخلاءالمستوطنات في قطاع غزة وفقا لخطة فك الارتباط وأخيرا تراجع عن مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية مكتفيا ببعض الاغتيالات التي تمت على يد الموساد. لكن إخلاء جوش قاطيف التي كانت مكسبا سياسيا لا يمكن التخلي عنه كان سابقة هامة وحقيقة أكدت أن المستوطنات غير أبدية .
لقد شطح ورثة شارون السياسيين عن النهج الذي رسمه لهم فإذا بـــ ” إيهود أولمرت ” رئيس وزراء إسرائيل الأسبق يتهور ويشن حربا على لبنان وهجوما دمويا على غزة، أما نتانياهو الذي أبدى حنكة في قيادة الجيش لكنه أضر بالعلاقات مع الولايات المتحدة .
إن إسرائيل الآن تفتقر لوجود زعيم على شاكلة شارون يلتزم بمعايير استخدام القوة وتحافظ على الروابط الوثيقة مع الولايات المتحدة وتتمتع بالجرأة في اتخاذ القرارات السياسية بشأن العلاقة مع الفلسطينيين ولا تخشى رد فعل المستوطنين .
شارون الذي قهر المقاومة ورسم حدود العلاقة مع الفلسطينيين
شارون 1928 – 2014
عندما نحاول استرجاع صورة زعيم إسرائيلي حدد بوضوح العلاقة بينإسرائيل والفلسطينيين خلال العقدين الماضيين سنجد صورة أريئيل شارون بادية أمام أعيننا. لقد استطاع التنبؤ بمواطن الصراع المستقبلية مع الجانب الفلسطيني ثم أصبح راعي المشروع الاستيطاني عندما تولى وزارة الزراعة ثم وزارة الدفاع في حكومتين متعاقبتين برئاسة مناحم بيجن وبعد ذلك صار وزيرا للخارجية في حكومة نتانياهو الأولى وبمجرد عودته من مؤتمر واي ريفر عام 1998 وعقب توقيع نتانياهو على اتفاق تسليم عدوه اللدود ياسر عرفات مزيد من الأراضي، دعا شارون المستوطنين إلى الإسراع في الاستيلاء على كافة بقاع الضفة الغربية .
أما تأثير شارون الملموس على تطورات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية فقد بان وقت توليه رئاسة الحكومة في شتاء 2001. ومضت عليه خمس سنوات من العذاب وهو في هذا المنصب، فقد شهد نشوب وخفوت جذوة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، واتخذ قرارات مصيرية للقضاء على المقاومة الفلسطينية، هذه القرارات لا تزال مؤثرة إلى اليوم على تطورات الأوضاع على الساحة الفلسطينية الإسرائيلية .
ولكن لا يمكننا إنكار واقع مؤلم، فخلال تولي شارون رئاسة الوزراء لقي ما يقرب من ألف إسرائيلي مصرعهم علاوة على مقتل أكثر من 2800 مواطن فلسطيني بسبب المواجهات الدموية التي جرت بين الجانبين. وبات واضحا أن إسرائيل بقيادة شارون أقرت الخيار العسكري لمواجهة المقاومة. لكن الوضع على الساحة السياسية لم يكن أقل تعقيدا ولولا زعامة شارون ما توقفت العمليات الاستشهادية الفلسطينية وما كان الجيش الإسرائيليومصلحة الأمن العام يتمتعان بالصلاحيات الواسعة التي يملكاها حاليا .
لقد اتخذ شارون ثلاثة قرارات مصيرية وقت الانتفاضة الفلسطينية: قراره بتنفيذ عملية السور الواقي العسكرية في الضفة الغربية في مارس 2002، وبناء الجدار العازل بعد ذلك ببضعة أشهر ثم إقرار خطة فك الارتباط والانسحاب من قطاع غزة ومن شمال الضفة في صيف عام 2005. هذا بالإضافة لقرارات أخرى حظيت بقبول شارون ولا تقل أهمية عن سابقتها: كالموافقة على خطة خارطة الطريق التي طرحتها إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش وتعتبر أول اعتراف لزعيم من حزب الليكود بحل الدولتين، وعدم القيام باغتيال ياسر عرفات رغم كرهه الشديد له، وتشجيعه للمستوطنين بالتوسع في بناء وحدات استيطانية غير مشروعة رغم تأكيده وتعهده للأمريكان بوقف المشروع الاستيطاني .
وبعد تغلب شارون على إيهود باراك وفوزه برئاسة الحكومة في 2001 غير كلمة واحدة فقط في البنود السبع للتعامل العسكري مع المتغيرات السياسية وهي كلمة ” الحسم ” فبدلا من تحجيم المقاومة الفلسطينية طالب الجيش بالقضاء عليها، ولكن تطبيق هذه السياسة تطلب من شارون عاما كاملا.ويرجع سبب هذا التعامل البطيء والمتدرج مع المقاومة الفلسطينية رغم سقوط مئات المدنيين الإسرائيليين قتلى جراء عمليات تفجير حافلات إلىالأهمية التي أولاها شارون لجبهتين رئيسيتين: أولهما الحصول على تأييد شعبي جارف باستخدام القوة العسكرية المفرطة ضد المقاومة الفلسطينية، وثانيهما التوصل لتفاهمات مع الجانب الأمريكي في هذا الشأن .
لقد تطلب تفاهم شارون صاحب المدرسة العسكرية القديمة التي ترجع إلىعام 1948 مع قيادات الجيش وقتا طويلا ولم يستطع إخفاء عدم رضاه عن التراخي وعدم الإقدام على الأخذ بزمام المبادرات العسكرية لدى قادة الجيش. وكان الجنرالات يديرون أعينهم بعيدا عن شارون بمجرد استطراده في الحديث عن ذكرياته عندما كان قائدا للوحدة 101 العسكرية حتى أنه وبخ أحد القادة أمام أفراد اللواء بقوله: صحيح أنني لا أعرف استخدام الحاسب الآلي المحمول، لكنني أعرف جيدا كيف أقضي على المقاومة. ومرة أخرى اشتكى لزملائه الذين خدموا معه في سلاح المظلات من الجيل الجديد قائلا ليس هؤلاء جنود المظلات الذين أعرفهم. لكنه في المقابل وجد لغة تفاهم أكثر وأسرع مع مصلحة الأمن العام بقيادة أفي ديختر الذي استطاع تلمس تفضيل رئيس الوزراء تنفيذ عمليات اغتيال بأحدث الوسائل التكنولوجية، حيث كان يسهر طوال الليل منتظرا الأنباء عن نجاح عملية تصفية جسدية لشخصية ما وكان دائما ما يقول بعدها ” نجحنا في قتل كلب آخر ” ويحذف اسمه من القائمة التي في حوزته .
وكي يستطيع شارون تجاوز تحفظات ومخاوف قادة الجيش من خوض عملية السور الواقي استعان بقيادات الوحدات النظامية والذين أصبحوا اليوم قادة الجيش وهم أفيف كوخافي ويائير جولان والعميد احتياط تشيكو تامير، واتفق معهم على ضرورة اعتقال من يجندون الفلسطينيين للقيام بعمليات فدائية في تل أبيب وحيفا سواء كانوا في عقر دارهم أو في مخيمات اللاجئين. لتأتي مذبحة ” ليلة عيد الفصح ” في فندق بارك بناتنيا لترجح كفة الجانب الإسرائيلي وتمكن الجيش من إعادة السيطرة على مدن الضفة. لم يكن ذلك انتصارا فوريا، لكنه تطلب عامان من عمليات الاعتقال اليومية وتحقيقات مصلحة الأمن العام المتوالية حتى تم تخفيض العملياتالفدائية إلى الحد الذي يمكن التصدي له وبما يمكن من عودة الحياة فيإسرائيل إلى طبيعتها. وكانت تلك مسيرة قاسية لا هوادة فيها ضررها الأكبرإصابة كثير من المدنيين لكنها أفضت في النهاية إلى النتيجة التي أراد شارون إحرازها.
كم سخرت وسائل الإعلام من البيانات المتلاحقة عن اعتقال قيادات ومساعدي وأتباع الأتباع للأذرع العسكرية للمنظمات الفلسطينية في الضفة. وبالفعل تم اعتقال أو قتل أغلب المخططين لعمليات استشهادية وصار أتباعهم لا يملكون المعلومات أو الوسائل لتنفيذ مزيد من العمليات. وأحسن وصف لما حدث جاء على لسان أكثر الشخصيات التي كان يكرهها شارون وهو رئيس الأركان في ذلك الوقت موشيه يعالون، حيث قال لكن كلفت المقاومة الفلسطينيةأضعاف ما دفعه المجتمع الإسرائيلي، وظل ذلك راسخا في الوعي الجمعي للمجتمع مما بشر بانتهاء الانتفاضة .
وإلى أن تم المراد اضطر شارون مرغما تبني فكرة إقامة جدار عازل رغم كونه يتناقض مع غرائزه العسكرية والتوسعية. لم يقابل شارون الفكرة بترحاب شديد لكونه يفضل التعامل العسكري مع الإرهاب كما أن الجدار قد يضع حدا للتوسعات الإسرائيلية في الضفة. لكن استمرار التفجيرات والضغط الشعبي وتحذيرات مصلحة الأمن العام جعلته أخيرا يقبل بالقرار بعد شهرين من انتهاء عملية ” السور الواقي “. لكن شارون حاول كعادته أن يزيد الأمور تعقيدا عندما جعل مسار الجدار يخترق مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية مما عرضه لانتقادات دولية واسعة وتدخل المحكمة العليا في هذا الأمر أكثر من مرة انتهت إلى تحويل مسار الجدار في مناطق معينة جهة الغرب. لقد كان لهذا الجدار العازل فائدة مزدوجة فقد منع وصول الفدائيين إلى إسرائيل ووضع حدا غربيا للمستوطنات تبدأ منه كل جولة جديدة للمفاوضات .
وبعد ما يقرب من عام ونصف صدق شارون على خطة فك الارتباط التي كانت تتناقض هي الأخرى مع غرائزه العسكرية والتوسعية، وأعلن في 2002 أن حكم نتساريم كحكم تل أبيب، لكن استمرار الانتفاضة جعله يعدل عن رأيه بنهاية عام 2003. فقد سأم الشارع الاسرائيلى من الاغتيالات والاعتداءات الإسرائيلية المتوالية وقدم ضباط احتياط بوحدات حيوية ومنهم طيارون وخريجو هيئة القيادة العامة عرائض رفض للمشاركة في هذه العمليات. وتشوهت صورة إسرائيل ومكانتها بالخارج وزادت حدة الانتقاد الأوروبي للعمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية وتأزمت الحالة الاقتصادية بعد هروب المستثمرين. كما ساهمت التحقيقات الجنائية التي جرت مع شارون ومع ابنيه في توصله لقرار بضرورة اتخاذ خطوة ما لتغيير الأجواء السائدة في الشارع الإسرائيلي .
وجاء قراره بالتخلي عن جوش قاطيف لإنقاذ أكثر المشروعات المحببة إلىقلبه وهو المستوطنات في الضفة الغربية. إن انسحاب شارون الأحادي من القطاع جعله ينال في أواخر أيامه السياسية تقديرا دوليا لم يشهد مثله في الماضي. ولكن من وجهة نظر قطاع عريض من الإسرائيليين لم تحقق خطة فك الارتباط النجاح التام أو المرجو، حيث سيطرت حماس على قطاع غزة وأصبحت القذائف الصاروخية التي حصلت عليها منذ ذلك الحين تمثل إلىاليوم خطرا على تل أبيب. لكن أهم درس من الانسحاب أن الحكومةالإسرائيلية القوية تستطيع أن تقدم تضحيات غالية وأن بمقدور طرفي الصراع أن يضعا حدا له فهو ليس قدرا دائما لكن هناك سبل للخروج منه. بعد أربعة أشهر من تنفيذ خطة فك الارتباط أصيب شارون بالجلطة الدماغية الأولى. ورأى أقطاب اليمين الديني المتطرف ذلك عقابا إلهيا بسبب موافقته عليها .
وتعد حرب لبنان الأولى عام 1982 أبشع أخطاء و إخفاقات شارون تم علىآثرها إقصاءه من منصب وزير الدفاع. لذا ظل يتعامل بحذر مع الملف اللبناني ماضيا في نفس الخط السلمي الذي سنه قبله إيهود باراك وقت الانسحاب من الأراضي اللبنانية في مايو من عام 2000. وتواترت أيام شارون أسطورة الصواريخ الصدئة وأخذت إسرائيل موقفا حذرا من الرد على الهجمات الاستفزازية لحزب الله. وعندما أمر حسن نصر الله بالهجوم على الدورية العسكرية 105 في تموز 2006 كان شارون قد دخل في غيبوبة منذ أكثر من ستة أشهر .
أما خلفه ايهود باراك فقد رد على تحدي حزب الله برعونة ودون تخطيط كاف. وتم إدارة حرب لبنان الثانية بشكل سيئ بداية من القيادة السياسية وحتى الكتائب المقاتلة مما أفضى إلى نتائج إستراتيجية متشابكة. وفي خضم هذه الحرب الحزينة عاد البرنامج التلفزيوني ” الأرض الرائعة ” في ثوبه الجديد. وأظهر الجزء الأول من البرنامج شارون غائبا عن الوعي راقدا في المستشفى فإذا بالتقارير المتوالية في نشرات الأخبار من لبنان توقظه من غيبوبته فبحث عن رئيس الأركان رفائيل ايتان ” رفول ” كي يعود ويقود الحرب.
لقد عبر البرنامج عن الشعور الشعبي في ذلك الوقت والذي كان يتم تناسيه،أي أن شارون لو كان موجودا كان سيصبر أكثر على تحدي نصر الله وسيتعامل معه بحذر شديد منتظرا اللحظة المناسبة ليرد عليه بضربة عسكرية تصيبه في الصميم.
صحيح أن حرب لبنان الأولى تعتبر فشلا ذريعا وخطأ لا يغتفر لشارون، لكن تورط الجيش في حرب لبنان الثانية جعل كثير من الإسرائيليين يبدون استعدادا لنسيان خطاياه السابقة مقابل إدارته مرة ثانية لشئون البلاد والسير بها نحو طريق آمن يختلف عن طريق الألغام الذي تسرع خليفتهباراك وقادهم نحوه طامعا في مجد شخصي .