آراء حرة
وائل النجار يكتب : «العفو الرئاسي» بين الإستخدام والاستغلال
في البداية تجدر الإشارة إلى أنني لست بصدد تقييم مشروع دستور مصر 2013، ولكني سأتناول حق كفله معظم دساتير مصر والعالم لرؤساء الجمهوريات ومن في حكمهم … ألا وهو حق إصدار العفو الرئاسي.
إن الدولة الحديثة تتكون من ثلاث سلطات ” تشريعية وتنفيذية وقضائية “، يتم توزيع الاختصاصات فيما بينهم وفقق مبدأ الفصل بين السلطات.
وتعود جذور هذا المبدأ إلى الفكر السياسي الإغريقي، ويعد أرسطو المؤسس الأول لهذا المبدأ، فقسم وظائف الدولة إلى ثلاث سلطات ” المداولة، الأمر، العدالة “ على أن تتولى كل وظيفة هيئة أو مجلس مستقل عن الآخر مع وجود تعاون بينهم لضمان الحفاظ على قدرة الدولة في ضبط مسارات المجتمع.
في حين أوضح أفلاطون أن وظائف الدولة يجب أن تتوزع بين هيئات متعددة ومختلفة مع ضرورة إقامة التوازن والتمايز في الوظائف بين هذه الهيئات حتى لا تنفرد إحداها بالحكم.
أما في عصر التنوير الأوروبي فقد ظهر مبدأ الفصل والتمايز بين السلطات في كتاب ” الحكومة المدنية ” لجون لوك (1632- 1704)، حيث أشار إلى أن إعطاء سلطة مزدوجة لهيئة واحدة لوضع القوانين وتنفيذها تمنح إغراءات للأشخاص لتجاوز سلطتهم، ومن هنا أكد على ضرورة الفصل بين السلطات، وأصبح كتاب جون لوك إنجيل الثورة الانجليزية.
بدوره أشار الفيلسوف الفرنسي “مونتسكيو ” في كتابه “روح القوانين” 1748 إلى مبدأ ” الفصل بين السلطات الثلاث ” كنسق أساسي لتنظيم العلاقة بين السلطات العامة في الدولة ومنع احتكار السلطة، مؤكداً على ضرورة أن تبقى هذه السلطات مستقلة عن بعضها البعض.
من جانبه أوضح جان جاك روسو في ” العقد الاجتماعي ” أن الفصل والتمايز بين السلطات يؤدي إلى توزيع الصلاحيات والأدوار بينهم، مما يُسهل عملية إدارة أمور الدولة في مختلف جوانب الحياة، ويتيح للأفراد والمؤسسات والجماعات المساهمة في اتخاذ القرار.
إن النظم السياسية بصرف النظر عن توجهها الأيديولوجي تُعطي الأولوية في الإستقلالية للسلطة القضائية على السلطتين التشريعية والتنفيذية، لأنها تُمثل العدل وهي التي تفصل بينهما في حالة النزاع ومنوط لها تفسير القوانين والحكم فيها وضمان تنفيذها من قبل مختلف الجهات داخل المجتمع، كما تعمل السلطة القضائية على منع انتهاك حقوق الأفراد سواء من قبل أفراد آخرين أو من قبل السلطة التشريعية أو التنفيذية، وتحافظ على تحقيق مبدأ سيادة القانون.
المادة (155) في مشروع دستور مصر 2013 نصت على أن ” لرئيس الجمهورية بعد أخذ رأى مجلس الوزراء العفو عن العقوبة أو تخفيفها. ولا يكون العفو الشامل إلا بقانون يُقر بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب “.
من العرض السابق أعتقد أن حق العفو الرئاسي الذي كفله الدستور لرئيس الجمهورية ويستطيع من خلاله أن يعفو عن العقوبة الصادرة على المتهم سواء كان هذا العفو عن كامل العقوبة أو ما تبقى منها يتنافى مع مبدأ الفصل بين السلطات، لأن رئيس الجمهورية يُمثل السلطة التنفيذية في حين أن الجهة التي أصدرت حكم الإدانة تُمثل السلطة القضائية وبالتالي فهي المُخولة بإصدار قرارات العفو.
ومن منطلق أن إعطاء سلطة مزدوجة لأحد سلطات الدولة الثلاث قد يؤدي إلى إنحرافها عن العدالة، فكان من الأحرى أن يتدخل المُشرع لوضع ضوابط لاستخدام هذا الحق حتى لا يُساء استعماله من قبل رئيس الدولة.
فمنذ قيام النظام الجمهوري في مصر وكان هذا الحق – العفو الرئاسي – موجود في دساتير مصر المتعاقبة إلا أن استخدامه كان في أضيق الحدود وبدون تمييز، فقرارات العفو التى صدرت منذ عهد الرئيس محمد نجيب مروراً بعهد عبد الناصر والسادات وصولاً إلى مبارك كانت محدودة للغاية وأغلبها خُصص لمتهمين في قضايا تجسس لصالح جهات أجنبية، وكان يتم إصدار قرار العفو عن هؤلاء المتهمين بهدف مبادلتهم بمواطنين مصريين مُحتجزين في بلاد المعفو عنهم، كما استخدم العفو الرئاسي لصالح بعض الإعلاميين، واستفاد منها أيضاً من ثبت حسن سلوكهم أثناء قضاء فترة العقوبة.
إلا أن سوء استخدام هذا الحق بلغ مداه مع تولي الرئيس السابق محمد مرسي مقاليد الحكم في مصر، فقرارات العفو الرئاسية التى أصدرها مرسي لم تُوضح سبب صدورها، وجاءت في أغلبها نخبوية أى شملت نخبة منتقاة تميزت بانتمائها إلى جماعة الإخوان المسلمين أو إلى فصيل الإسلام السياسى.
إن استغلال محمد مرسي لحقه الدستوري في إصدار العفو الرئاسي وانحرافه به عن دولة القانون يجعلنا مُضطرين لاعادة النظر في هذا الحق، وعلى المشرع مراجعته وتقنينه بضوابط واضحة وحازمة منعاً لإساءة استخدامه.
ويأتي هذا التقنين في أحد جوانبه بألا يكون الرئيس هو المُخول بإصدار هذا العفو، وإنما عليه التقدم بطلب لهيئة قضائية تتخصص في مثل هذه الأمور أو للمحكمة التى أصدرت الحكم على المتهم المطلوب العفو عنه وموضحاً في طلبه أسباب العفو، ويكون للهيئة أو المحكمة اتخاذ ما تراه ملائماً وفق القانون والمصلحة العليا للوطن, وبذلك يؤول الاختصاص لأصحابه، ولا يُعد تعد من إحدى السلطات على السلطة الأخرى.
إن العفو الرئاسي تم وضعه في الدستور ليستفيد منه المواطن المصري أياً كان انتمائه السياسي والفكري والمذهبي والأيديولوجي دون تمييز، فهو في الأساس حق للمواطن وليس للرئيس.
أستطيع أن أتفهم استخدام الرئيس للعفو الرئاسي إذا كان في إطار تحقيق المصلحة العليا للوطن والحفاظ على الأمن القومي المصري أو من منظور البعد الإنساني، مع ضمان عدم توغل السلطة التنفيذية على اختصاصات السلطة القضائية.
ولكن ما لا يمكن القبول به هو أن يستخدم الرئيس هذا العفو لتحقيق مصلحة شخصية أو فئوية كما حدث من الرئيس السابق محمد مرسي، أو لتحسين صورته أمام الرأي العام مثلما فعل الرئيس مبارك بعفوه عن الإعلامي إبراهيم عيسى.
وفي كل الأحوال يجب أن نعمل على تثبيت وتفعيل مبدأ الفصل بين السلطات، بحيث تكون كل منها رقيبه على الأخرى، وبالتالي نُنشأ دولة مؤسساتية يكون هدفها الأول والأخير مصلحة المواطن ورفعة الوطن.