مصر الكبرى

03:43 مساءً EET

أسباب ازدهار أغاني الزمن الجميل مرة أخرى في أيامنا الراهنة

عندما تتعانق الكلمة مع الموسيقى والصوت الهامس
صفحة لامعة من أرشيف مصر الفني
كتبت – مروة فهمي :
عندما انتهيت من مشاهدة فيلم < الشموع السوداء > على شاشة فضائية عربية ، سألت نفسي عن استمرار تأثير شريط سينمائي تم عرضه في عام 1962 . ولا يزال يملك لغة حية قادرة على النفاذ إلى أبناء جيلي ، على الرغم من المساحة الزمنية الكبيرة التي تفصل واقعنا عن تلك الأيام التي كانت تتألق بروح الفن ومحبة الجمال .

ولأن الفيلم قصة معلقة في سماء حياة رومانسية برقة ووداعة ، فهو لا يزال حياً في أيامنا تلك المحجوب عنها هذا النسيم منذ فترة طويلة نتيجة لتدني الذوق وفساد المواد الثقافية والفنية التي نستهلكها .
أتفهم بشكل واضح وبعقل مفتوح الأسباب التي تؤدي إلى إزدهار فنون أيام الماضي ، مع إنه المفروض أن نستهلك فنون جيلنا الحالي ، لكن الاضطرابات التي تشوه الذوق والعقول والوجدان تجعلنا نهرب بإرادتنا نحو الماضي للإستماع إلى فنه والتمتع بما كان يملكه . أتفهم عودة أغاني هذا الجيل من عبد الحليم حافظ مع نجاة وصباح ووردة ومحرم فؤاد حيث يُقبل عليها الشباب ويستمع إليها ، فعلى سبيل المثال لازالت أم كلثوم متربعة على عرش الغناء المصري مع إنها رحلت منذ سنوات ، لكن كلماتها عن الحب والعواطف لا تزال قوية في أذهاننا نتيجة غياب تأثير الواقع الجديد الذي يحاول حصارنا بأشياء تحرم الحب وتجرم العواطف وتطعن في قيمة الفن كله .
الأشياء من حولنا في ظل هذا الضباب تبدو خالية من بهجة كانت موجودة في أحقاب السعادة المصرية بأغاني الحب المتدفقة من الإذاعة والشرائط والموجات النغمية الرائعة من مدارس الموسيقى المصرية خصوصاً من مجموعة الموهوبين جداً أمثال عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي والأجيال التي جاءت بعدهم مثل كمال الطويل ، محمد الموجي وبليغ حمدي .
وأنا من عشاق كل هؤلاء لكنني في الوقت نفسه معجبة بمدرسة الفن الشعبي التي تدفقت في السنوات الأخيرة على يد مغني موهوب هو أحمد عدوية الذي استلهم الألحان الصميمة التي يتغني بها الناس في أفراحهم وأيام حبهم ونقلهم بلغة بسيطة معبرة جداً وعبر صور غنائية غاية في البهجة والانشراح . ولا يمكن مقارنة ما يقوله شعبان عبد الرحيم بما غناه أحمد عدوية فالأخير تعبير عن عصر جميل كان يكتشف نفسه ، أما الاول فهو أيضاً يعبر عن العشوائيات ولغتها والموسيقى المقررة التي لا تتحدث عن شئ محدد وإنما تثير التهريج والصخب بلا طائل .
فيلم < الشموع السوداء > مترجم عن قصة تركية إسمها : تحت ظلال الليل من تأليف بدورة سالم سيناريو وحوار ضياء الدين بيبرس وإخراج الرائع عز الدين ذو الفقار صاحب الأعمال الخالدة في شارع السينما المصرية .
عز الدين ذو الفقار هو مخرج < بين الأطلال > و < شارع الحب > و < إمرأة في الطريق > والأخير صنع نجومية رشدي أباظة بعد سنوات في أدوار صغيرة غير مهمة ، لكنه في دور < صابر > برز كعملاق في الآداء أمام هدى سلطان التي مثلت أجمل وأحسن وأفضل أدوارها أمام شكري سرحان والعبقري زكي  رستم .
أدار المخرج هذا الفيلم بانبهار شديد والولوج إلى قصص التصادم العاطفي العنيف على أرضية من الصراع الدائر على مساحة الخروج على المألوف والتعبير الصارخ لرغبة العواطف في امتلاك الآخر والاستحواذ عليه وعدم مراعاة ضوابط الحياة الاجتماعية وحدودها .
كانت هدى سلطان في هذا الفيلم جامحة بعواطف ملتهبة لأمرأة عاشقة لكنها أحدثت الاضطراب والانفجار ثم جاء العقاب القاسي للقدر العنيف الذي يحاسب من يتمرد ومن يخرج عن الطوق .
وعندما عدت إلى عز الدين ذو الفقار نفسه وجدت حياته بهذا الجموح فقد انتقل من الحياة العسكرية الجافة داخل الجيش إلى عالم الفن الواسع والمثير بمغامرات على الشاشة واقتحام الدوائر الصعبة ووالانطلاق في المرحلة الذهبية للسينما المصرية ، عندما كانت تنتج أكثر من مائة فيلم في العالم .
صنع المخرج عشرات الأفلام ما بين رومانسية وكوميدية وتاريخية ، فهو صاحب فيلم < رد قلبي > عن قصة يوسف السباعي بطولة شكري سرحان ، مريم فخر الدين وصلاح ذو الفقار وحسين رياض والظهور الأول لأحمد مظهر في دور الأمير علاء .
لكن عندما ترى فيلم شارع الحب بطولة عبد الحليم حافظ وصباح ترى جمال كوميديا غنائية تمنح مساحة كبيرة لعبد السلام النابلسي مع زينات صدقي . هذا الفيلم تتجمع فيه متع بصرية مع حوار خفيف ذكي كتبه يوسف السباعي عن قصة له .
وأغاني كتبها مأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز وألحان الموجي وكمال الطويل بالإضافة إلى منير مراد وهذا الأخير بالذات له علامات واضحة على الأغنية المصرية لا نقول الخفيفة وإنما الممتلئة بالبهجة فالجمل التي يختارها كأنها تقفز نتيجة صناعة متقنة لملحن موهوب وفنان .
وعندما كنت ترى منير مراد يغني ويرقص في أفلامه القليلة تشعر بالبهجة والسعادة كأنك في حديقة والزهور تغني من حولك .
ويمكن وضع إمرأة في التاريخ بجانب شارع الحب وبين الأطلال مع الشموع السوداء لتقرأ سمات مخرج مصري عشق الفن السابع ورأى في السينما بالذات علامة قادرة للتعبير عن روح الشعب وفهمها وتقديم المتغيرات الاجتماعية ونضج العواطف . وكان عاشقاً للسينما مجنوناً بها يكتب قصص افلامه ويشارك في السيناريو والحوار ويقرأ كل الكتب الصادرة عن هذا الفن الرائع المرتبط بالعصر الحديث والعلم .
كانت مصر خلال توهج مراحلها الفنية تستخدم السينما والمسرح والموسيقى لتجسيد حياة تتحرك وتندفع إلى الأمام . وعندما انتكست هذه النهضة تراكمت  خيوط العنكبوت بهدف منع الذات المصرية من التعبير عن نفسها ونبضها .
مرحلة السينما المصرية في فترات ازدهارها يمكن لها اعطاء دلالة واضحة على مسيرات للانطلاق والتناغم مع الحضارة والازدهار على مستوى العالم . وعندما ترى أفلام عز الدين ذو الفقار ترى الجدية البالغة في تحريك كاميرات السينما لتصوير أفلام لفاتن حمامة مع عمر الشريف وعبد الحليم حافظ وصباح ونجاة المطربة مع لاعب الكرة صالح سليم .
عندما ترى فيلم الشموع السوداء تنتقل إلى عالم آخر في ريف مصري تم صوغه بطريقة رومانسية على الطريقة الإنجليزية ، فهناك رجل ثري يعيش في قصر منيف وممرضة جاءت لعلاجة من أزمة نفسية نتيجة صدمة عاطفية أصابته بالعمى .
وعندما تصطدم العواطف بقسوة نتيجة المفاجآت القاسية من عيار الخيانة تظلل العيون سحابة العمى حتى لا تبصر في هذا الجو الخانق . لكن الحب كما في الأساطير الخيالية يعيد البصر وينهي السحر الشرير ، لذلك نرى البطل أحمد يبصر بعد الإفاقة من هذا العمى القاسي .
فن السينما مثل الحكايات الخيالية فلا تبحث عن المبررات العلمية لأنها غير موجودة ، إذ تلك قصص تدور في عالم من الخيال فترى الخيانة تحقق العمى بينما الحب يعيد الإبصار .
أما الفيلم الجميل < الشموع السوداء > فهو يستند على أغنية < لا تكذبي > التي كتبها الشاعر كامل الشناوي بحساسية فائقة . وهناك إشاعات تقول إنه سجل في القصيدة تجربة مر بها في الواقع ، إذ رأى مشهد الخيانة أمامه ، فكتبه كما رآه فجاءت الكلمات بهذا النضج والعنف والغضب والإدانة ، فتصوير فعل الخيانة الذي صوره ببراعة عبر عنه في أكثر من مقطع شعري .
جاء عبد الوهاب فجسد الكلمات بموسيقى تكاد تنطق بفعل الخيانة من جانب وغضب الشاعر وثورته وجنونه من جانب آخر .
كان الموسيقار الراحل كما يقول النقاد اضطلعت على كلامهم ، إنه كان يحب صوت نجاة الهامس والمعبر والرقيق والمحلق في سماء عذبة من مقامات موسيقية منخفضة لكنها تحظى بهذا التأثير الفياض والبليغ في التعبير .
الصوت الهامس العميق يستطيع النفاذ إلى القلب ، لذلك لحن عبد الوهاب لنجاة أهم أعمالها قاطبة منذ لحنه الجميل < أيظن > تأليف نزار قباني . ثم أعطى لها لحنه الآخر ساكن قصادي تأليف حسين السيد . أما لحن قصيدة < لا تكذبي > فقد منحه إليها ، لكن عبد الحليم حافظ أصابته الغيرة فأصر على غنائها واعتقد انه لو استخدم المقامات الغنائية العريضة فيستطيع الفوز على نجاة بمساحات صوتها الضيقة . عندما غنى < حليم > قصيدة < لا تكذبي > جاء الآداء مسطحاً خالياً من العاطفة ومن اللوعة التي ظهرت في غناء < نجاة > لتجسيد طوفان الضعف والقلق والحيرة والاضطراب عند مشهد عناق الخيانة بالهمس واللمس والآهات .
عبد الحليم كان يصرخ وهو يقول < لا تكذبي > : أما نجاة فكانت تبكي لوعة ويختنق صوتها وهي تحكي مشاهد الخيانة التي ترسمها كلمات كامل الشناوي . وعلى الرغم أن كلمات القصيدة من المفروض أن يصرح بها <رجل > فإن نجاة عبرت هذا التقسيم ووصلت إلى حالة إنسانية رقيقة ، لذلك صوتها في فيلم < الشموع السوداء يسجل حساسيتها ولونها الخاص بها ، حتى لم تستطع مغنية أخرى تقليدها على الإطلاق ، لأن لصوتها طبيعة متميزة بالأحاسيس المتدفقة والتعبير الهامس الجميل والصوت العذب القادر على دخول القلب من نافذة الأذن .
عندما أرى < الشموع السوداء > أنتظر في توتر وصول مشاهد الأغنية التي منحها عبد الوهاب مقدمة رائعة على أصابع < البيانو > في استهلال يكشف المنظر القادم ويمهد شعورياً للحظة التي تقفز إلى الأمام بسرعة خاطفة كالوهج عندما يكتشف العاشق والحبيب فعل الخيانة كما يحدث في الأوبرات العالمية فيهتف من أعماق قلبه في صوت عميق يحذر بصخب وبعذوبة وألم < لا تكذبي >.
< نجاة > صوت بديع له خصوصية ومساحات الصوت مغلفة بنبض جميل يصل إلى النفس مباشرة . وهذه المطربة هي من النجوم الزاهرة في سماء القاهرة المتوهجة بفنون تألقت منذ نهاية القرن التاسع عشر .
لكن المجتمع الذي أطلق هذه الفنون بتلك القدرة لديه بالتأكيد الإرادة لإعادة هذا الوهج مرة أخرى إلى الشارع المصري مجدداً عندما تترسخ رياح الحرية وحق الاجتهاد والانطلاق في حقول الفن ، كما حدث لمسيرة عز الدين ذو الفقار المخرج الذي عشق السينما وعبر بالكاميرا عن أشواقه وطموحات لا محدودة ، وترك لنا هذا الفن الجميل الذي نراه الآن على شاشات الفضائيات فتنتعش أرواحنا وتنبض قلوبنا بالبهجة والجمال .

التعليقات