مصر الكبرى
مقال كتبته في ٢٠٠٨ ومازال ساريا اليوم : المقدس .. والمدنس.. والمدمس
المقدس، والمدنس، والمدمس، نظرية شاملة، ثلاثية الأركان، قادرة على أن تفسر لنا سلوكيات عرب اليوم ورؤيتهم لما يدور في مجتمعاتهم وخارجه، وكذلك تفسر لنا اختلاف العالم معنا واختلافنا معه.
ولكي نفهم نظرية المقدس، والمدنس، والمدمس، لا بد من توضيح أمثلة من الواقع المعيش لإثباتها أو نفيها.. فماذا تقول لنا هذه النظرية عن تجرؤ «حماس» على الحدود المصرية؟ هل هو حالة عروبية وحدوية أم هو تجاوز فج لحرمة الحدود الدولية؟ وماذا تقول لنا عن غزو صدام للكويت أهو عدوان سافر أم تطبيق بالجند والعتاد للوحدة المنشودة؟ وهل إيران هي دولة حليفة للعرب أم هي دولة تحتل أرضهم؟ وهل عماد مغنية شهيد مبشر بالجنة أم إرهابي؟ وهل القتلى الذين سقطوا في صراع «حماس» و«فتح»، هم شهداء أم ماذا؟
في موضوع «حماس» ورجالاتها الذين فجروا السور الفاصل بين مصر وغزة، يرى الغرب والعالم أن ما حدث هو جريمة حسب القانون الدولي، فالحدود أمر مقدس (جماعة المقدس)، أما بعض العرب (جماعة المدمس) فلا يرى ما حدث على أنه جريمة، والبعض الآخر يرى في تكسير الحدود مثالا يقتدى به لتحقيق الوحدة العربية (جماعة المدنس). فلماذا يرى الغرب في خرق الحدود الدولية جريمة، في حين يرى بعض العرب غير ذلك؟
بينما الجريمة في الغرب هي أمر كامن في الفعل ذاته، يرى الكثير من العرب أن الجريمة ليست مرتبطة بالفعل ذاته، وإنما تحدد حسب التفسير الاجتماعي للحدث وإجماع الناس. وبينما تصدم الجريمة في المجتمع الغربي ضمير المجتمع لأنها جريمة وفق القانون، يكون الأمر عكس ذلك في مجتمعنا العربي، فلا يعتبر أمر ما جريمة عندما يتفق مع الإجماع السائد حتى لو كان هذا الحدث جريمة بحكم القانون. وهذا هو الفارق في فلسفة الجريمة بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الصناعية. القانون يعاقب على الجريمة في الغرب، بينما تبقى مجتمعاتنا أسيرة التأويل الاجتماعي للأحداث، فما تراه المجموعات ذات الصوت العالي والمسيطرة إعلاميا على أنه جريمة، يصبح جريمة. وما لا تراه، لا يصبح.
التجريم والتحريم عندنا ليسا من القضايا القانونية، وإنما هما من القضايا الاجتماعية، يحددهما الفصل الصارم بين مساحات المقدس ومساحات المدنس.
الفصل الثقافي والاجتماعي للمقدس عن المدنس هو الأساس الذي نعتمده كي نعلم أولادنا كيف يرون أنفسهم والعالم من حولهم. المقدس الثقافي والاجتماعي لا نتساءل فيه أو عنه، معظم نقدنا وتساؤلاتنا يكمن في تلك المساحات التي تقع ضمن حيز المدنس، هنا تكون الأسئلة. هناك مساحات تبقى بلا اختيار أو اختبار، مساحة ما بين المقدس والمدنس، وهي ما أسميه مساحة المدمس. والمدمس لغير المصريين، هو فول الصباح الذي يطهى بوضعه في آنية فخارية تطمر بتراب من تحته نار نسميها في صعيد مصر بالدمس، والكلمة فرعونية الأصل.. وأكل الفول في التقليد المصري، يرمز إلى حالة «توهان»، أي عدم القدرة على التفريق بين المقدس والمدنس. مفعول المدمس هو أن «الواحد يشوف الإشارة حمرا، وبرضه بيعدي». أي أن يكون الفرد مخطوفا، كما تخطف الطائرات، أو كما يخطف الخوف فردا فيصفر وجهه ويفقد التركيز، والمجتمعات أحيانا تكون مخطوفة. لا هي في حالة المقدس ولا المدنس، وإنما في حالة المدمس.
حدود المدنس هي التي تعرف المقدس، أي أن الحجاب يحدده الكشف عن شعر الرأس، ولحية الرجل يميزها الآخر الحليق. الذهاب إلى الحلاق يوم سقوط حركة طالبان كان عملا ثوريا، لأنه عبر الخط الفاصل بين المقدس والمدنس.
يرى العرب أن احتلال إسرائيل لفلسطين جريمة، وهو بالفعل كذلك، والقانون الدولي يرى وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية احتلالا، بينما انقسم العرب حول احتلال صدام حسين للكويت، الذي هو احتلال وفق كل أعراف القوانين الدولية، ورأى كثير من المثقفين والإعلاميين على امتداد العالم العربي أنه مثل يجب أن يقتدى به لتحقيق الوحدة العربية وتوزيع الثروة! كثيرون منا اليوم لا يرون في احتلال إيران للجزر الإماراتية جريمة، لأنهم ينظرون إلى إيران على أنها حليفهم في مقاومة الأميركان، فالمقاوم لا يمكن أن يكون محتلا حتى لو دخل بيوتنا.
كنت على واحدة من القنوات العربية في نقاش مع وزيرين عربيين، أحدهما تحتل إيران عمليا ثلث بلاده، والآخر بلده مهدد دائما بتغلغل النفوذ الإيراني عبر اللعب على الوتر الطائفي في البلاد، ومع ذلك وطوال برنامج كامل كان كل هدفهما هو الدفاع عن إيران. في نظرهما هناك احتلال واحد في الخليج، هو الاحتلال الأميركي، أما الاحتلال الايراني فهو مبرر أو بأحسن الأحوال لا داعي للخوض فيه، لأنه احتلال (مقدس).
مفهوم التجريم والتحريم عندنا ليسا من القضايا القانونية، وإنما هما من القضايا الاجتماعية، يحددهما الأكثر علوا في الصوت وسطوة على الإعلام وتحكما بخطاب المسجد. التجريم والتحريم في عرفنا مرتبطان بفلسفة أساسها هو الفصل الصارم بين مساحات مقدسة ومساحات مدنسة. هذه المساحات يرسمها اليوم خطاب الفضائيات، فمساحة جنوب العراق التي تحتلها إيران تقع ضمن المقدس، أما المساحات التي يحتلها «الكفرة» الأميركان فهي مساحات «مدنسة»، إذن نحن أمام حالة احتلال مقدس لا يمكن المساس به أو الحديث عنه، واحتلال مدنس لا بد من مقاومته، كذلك قتل عشرات المدنيين العراقيين كل يوم هو فعل مقاومة لا جريمة.. تلك هي القصة، تعريف اجتماعي عاطفي للجريمة لا قانوني. هذا التفسير ينطبق على معظم مفاهيمنا ورؤيتنا للحياة، فقتل النساء مثلا بدعوى الدفاع عن الشرف هو عمل بطولي لا جريمة. وبما أننا نفسر الامور على مقاسنا ولا نعترف بالقانون، فإن لجوءنا للقانون الدولي والحديث عن قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، والكيل بمكيالين، لا يؤخذ مأخذ الجد في الغرب، لأننا نتحدث عن القانون وعن الجريمة كفعل، ونحن نؤصل أحيانا للجريمة كتأويل وتفسير اجتماعي. إذن كيف نسمي أمرا ما جريمة عندنا ونرفض الفعل ذاته عندما نقوم به نحن عندهم. كيف نبحث عن تبريرات للإرهاب عندما يقوم به أبناؤنا في الغرب، ونرفضه عندما يمارس ضدنا. الجريمة فعل أم تفسير وتأويل؟ هذا هو السؤال.
لا ألوم عرب اليوم في هذا التناقض، كما أنني لا ألوم عرب الأمس. العرب ضحية حالتهم الاجتماعية التي لا فكاك منها الآن، أو حتى بعد عقود من الزمن. إذ تلجأ المجتمعات التقليدية إلى الفصل بين مساحات المقدس والمدنس كأنجع وسيلة للحفاظ على الاستقرار. في تلك المجتمعات، يكون الدين أو العادات الاجتماعية، عشائرية كانت أم تراثية، هي الاسمنت الوحيد الذي يحافظ على تماسك المجتمع. في هذه المجتمعات تصبح الجريمة جريمة، إذا ما ظن البعض أن فعلا ما أو تبنيا لوجهة نظر ما قد يهددان تماسك هذا الاسمنت، أي أن الخوف من تشقق الاسمنت هو الذي يحدد لنا ما هو جريمة وما هو ليس بجريمة.
أما في المجتمعات الحديثة التي يكون الفرد هو الأساس فيها، تبقى القوانين هي التي تحدد معنى الجريمة، الجريمة في هذه المجتمعات هي فعل لا تأويل أو تفسير. لا توجد في هذه المجتمعات، جماعة الخوف على تشقق الاسمنت، فالمجتمعات الغربية متلاحمة بالقانون والمؤسسات والحرية الفردية التي تراعي حدودها وحدود الآخرين.
المشكلة الأساسية في رؤيتنا هي أن جماعة الاسمنت الاجتماعي عندنا، قد يرون في الفعل جريمة للحظة، ثم يرون أنه لن يؤثر على الاسمنت، فيقررون بعدها أنه ليس جريمة. أو أن يروا، وهذا ما حدث في حالة تكسير حماس للحدود المصرية، أن عبور الفلسطينيين إلى مصر سيمنح الاسمنت تماسكا أكثر، إذن هذا الفعل لا يمكن تفسيره على أنه جريمة في هذه الحالة. لو ترك الأمر منفلتا، وأطلق أعضاء «حماس» الرصاص على الجنود المصريين، ورفعوا العلم على مدينة الشيخ زويد، والتحم إخوان «حماس» مع إخوان مصر، وهذا هو الأهم، سنتبين وقتئذ أن ما حدث يهدد الاسمنت.. إذن لا بد وأن يفسر على أنه جريمة.
هناك أناس في الإعلام وفي الصحافة وفي المجتمع، ما زالوا واقفين عند أول يومين، عندما كان تكسير الحدود يقف في مساحة المقدس، ولم يخبرهم أحد أن الموضوع انتقل بعد أيام إلى مساحة المدنس، وهناك كثيرون واقفون لا في مساحة المقدس، أو مساحة المدنس، وإنما في مساحة المدمس، وهم الأغلبية.
إذن، في حالة «حماس» على الحدود، أو في حالات غيرها في المجتمعات التقليدية، يجب ألا يكون الأساس هو كشف تفاصيل الجريمة لإثباتها، بل الأساس هو محاولة تفكيك عقلية وثقافة هي المسؤولة عن التحريم والتجريم.