كتاب 11
الكاريكاتير حين يقبض القلب
في تلك الأيام، كنت أقف أمام مكتبة «الحكمة» في بغداد، صباح كل أحد، أنتظر وصول مجلة «صباح الخير» القاهرية، رفيقة الأسبوع كله. وقد كان الكاريكاتير، يومها، يرسم ما لا يمكن أن تكتبه الأقلام من مقالات، ويمرر، من خلال النكتة، نقدا لقضايا اجتماعية واقتصادية عسيرة. مع هذا، ترسخ في ذهني أنه فن يعنى بالفكاهة، واحتجت إلى سنوات طويلة لاحقة لكي أطالع رسوما تبدو ساذجة لكنها تفوح برائحة المأساة.
مع «برسيبوليس»، سلسلة كتب الرسوم المصورة والفيلم الذي تبعها للإيرانية مرجان سترابي، تأكدت أن الكاريكاتير لم يعد فنا خفيفا بل يمكن له، على بساطته، أن يقبض القلب لكي يفتح نافذة على الإنسانية الشامتة بالحدود بين الدول. إن قلم الفحم يتحرك سريعا وبخطوط لا لبس فيها لكي يعبر عن تشبث الفرد الضعيف بالحياة في بحر من الحيتان.
هذا التمسك بالحياة، والتأقلم مع تقلباتها، هو ما رأيته في المعرض الموجود في متحف تاريخ الهجرة في باريس، حاليا. هنا يلتقي 117 رساما للكاريكاتير، من أوروبا واليابان وأفريقيا وفيتنام والصين ودنيا العرب، عرفوا تجربة الهجرة وعبروا عنها، كل بأسلوبه. وهي رحلة ترصد نتاجات مائة سنة من هذا الفن الذي ارتبط بالصحافة، من خلال 500 رسم تخطيطي لا تحب، في الغالب، الخروج عن الأبيض والأسود.
أتفرج على لوحات إنكي بلال، الرسام البوسني الأصل الذي كان أبوه خياطا لبدلات المارشال تيتو في يوغوسلافيا الماضية. لقد جاء إلى فرنسا وهو في العاشرة واجتهد ليصبح أيقونة في فن القصص المصورة، تباع كتبه بمئات الآلاف من النسخ وتدخل إلى متحف «اللوفر» وتحقق في المزادات العالمية أرقاما مدهشة توازي ما تحققه لوحات الرسامين المعاصرين. أتفرج وأبحث، عبثا، عن خفة الكاريكاتير في رسوم تطاردها هواجس حرب البلقان، حيث المدافع والحرائق ديكورات تؤثث الصور المرسومة بقوة الموهبة.
الجزائري فريد بوجلّال لا يرسم الحرب الأهلية التي عصفت ببلده بل شجرة العائلة. إن أغصانها تحمل صورا لأجداد وجدّات وأبناء عمومة لا يشبه آخرهم أولهم. رجل في ثياب بدوية، وامرأة بالنقاب الجزائري الأبيض، وشيخ بقفطان بلدي، وشابة ذات أوشام، وأطفال بقبعات رياضية أوروبية. كل واحد منهم يتحدر من الغصن الذي يعلوه ويتهدّل بعيدا عنه. وكأنهم، في سيرة سلالتهم وهجراتهم، يعيدون قصة سفينة نوح. إن عنوان الرسم: «خنزير مقدد بالزبدة»، مثل «الساندويتش» الفرنسي الأكثر شهرة، أي الشاطر والمشطور والكامخ بينهما، حيث لا يكمخ شاب في أرضه بل تبقى عينه معلقة على الضفة الشمالية للبحر.
والمهاجرون الذين حالفهم الحظ ولم يتحولوا إلى وليمة لأعشاب سواحل لامبيدوزا، يصلون إلى البر فيتلقفهم فنان كاريكاتير يرسمهم ويحفظ لحظات المهانة التي ستبقى تؤرقهم. لوحة ذات خطوط عصبية تصورهم وهم يغتسلون في حمّام في العراء، أمام ضابط له سحنة كلب، يراقبهم ويقول: «افركوا جيدا.. لا نريد قملا في بلادنا الجميلة».
وهناك اللبنانية زينة أبي راشد التي تسجل وقائع مغادرتها الوطن وترسم ذكرياتها بالأسود والأبيض. إنها تغادر المدينة في عتمة الفجر، جالسة في سيارة يتعجب سائقها من خلو الطريق من الازدحام. تبكي وتمسح أنفها بينما تلاحقها والدتها بالأسئلة: هل أخذت كل شيء؟ ألم تنسي جواز السفر؟ هل تريدين كلينكس؟ والرسامة الماضية إلى حياة أخرى تجيب بالرسم ولا تكتفي بالتخطيط الأبكم بل تدون على هوامش الصور يوميات هجرتها: «غادرت بيروت على رؤوس أصابعي تاركة المدينة تستفيق من دوني». وقد كان لها الحق في أن تحمل معها في الطائرة حقيبة واحدة من 23 كيلوغراما. بعدد سنوات عمرها. الحسبة بسيطة. كيلو واحد عن كل سنة عاشتها.