آراء حرة
عبد الرازق أحمد الشاعر يكتب : من الموت إلى الموت
هربا من كرات اللهب التي تتساقط حول الأقدام الفارة برؤوسها من وطن يشتعل، تتزاحم أكتاف السوريين حول الممرات الضيقة ليتسولوا جواز عبور إلى أي حياة من أشقاء كانوا. لكن الحدود التي رصدت عن قرب قلب وطن هو كالحجارة أو أشد قسوة، لا يمكن أن تفتح أسلاكها الشائكة وتذبح ما تبقى من خيولها الأصيلة لضيوف الجوار، فليس العهد طائيا كما تكذب كتب التاريخ، ولا عروبيا كما تنافق الجغرافيا. ومن الشتات إلى الشتات يتحوصل الأطفال حول أعناق ذويهم كفئران مذعورة ينظرون من طرف خفي إلى عالم لم يعد لرؤوسهم الصغيرة موطئ حلم فيه.
في تقرير من أربعين صفحة تؤكد منظمة العفو الدولية أن السلطات الأردنية تمارس تمييزا عنصريا مع الفارين من عنصرية نظام يصر على البقاء وإن رحل الجميع، لأنه نظام “عروبي” جدا و”ممانع” للغاية. ومن كوة صغيرة جدا في ظهر سلك سياسي شائك، يتسلل السوريون لواذا إلى أي جوار، لكن كلاليب التصنيف تجذب ذوي الأصول الفلسطينية والعراقية من أقفيتهم المسفوعة بنار الكراهية وتطرحهم أرضا في عراء شاسع أو تضطرهم لركوب أمواج الهلاك التي أخرجتهم من أرضهم وديارهم ذات فتنة لتعيدهم إلى مربع الموت الأول.
“لا يعقل أن تمنع الدول المجاورة لسوريا أسرا تحمل أطفالها فوق ظهورها هربا من اغتصابها الممنهج من اللجوء،” يقول فيليب لوثر مدير منظمة العفو الدولية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. “صحيح أن أعداد اللاجئين المتزايدة تضيف أعباء ثقيلة على كواهل المقيمين بتلك البلدان،” يعترف الرجل “لكن هذا لا يبرر بحال إعادة الفارين من جحيم القهر إلى مساقط هلاكهم.” بيد أن المسئولين في مكاتب عمان المكيفة يؤكدون أن سياستهم حيال اللاجئين السوريين لم تتغير وأنهم لم يغلقوا نوافذ الرحمة أبدا في وجه النازحين من الجحيم السوري.
“مغرض تقرير منظمة العفو الدولية،” يؤكد محمد المومني، “فسياسيتنا لم تتغير، وحدودنا لا تغلق في وجه أي لاجئ.” ويزم وزير الإعلام شفتيه قبل أن يضيف: “كيف يرد المرء على تقرير كهذا في وقت تشيد فيه دول كثيرة حول العالم بموقف النشامى؟” ويستدل الرجل بإحصاءات تؤكد وجود أكثر من نصف مليون لاجئ سوري بطول حدود الأزمة، وأنهم يلقون في بلدهم الثاني كل رعاية وترحاب.
كذبت تقارير العفو إذن وإن كثرت، وها هم النشطاء على الحدود يردون على تقرير السيد لوثر مؤكدين أن معبر تل شهاب الذي يبعد عن العاصمة عمان خمسة وخمسين كيلومترا إلى الشمال كان مفتوحا يوم الخميس الماضي. ثم لماذا يبسط الرجل لسانه فيما يتعلق بحدود الأردن، ويقبضه حين يقترب من الأسلاك المجاورة الأخرى؟ ألم يؤكد الرجل في بيانه أن هناك دولا تمارس الإغلاق ذاته والكبح نفسه؟
من حق المسئولين في الأردن أن يدافعوا عن سياساتهم الحدودية لحماية ترابهم الوطني من الغرق في مستنقع الحروب القذرة، لاسيما وقد قبض المانحون أياديهم، وتركوا الخزينة الأردنية وحدها تتحمل شظف الأوضاع السياسية المأساوية المحيطة، فيما انشغلوا هم بالتسليح والتسليح المضاد ليفتنوا السوريين عن وطنهم إن استطاعوا. أليس من حق الدول المحيطة بالأزمة أن ترسم أسلاكها الشائكة فوق أضلاعها الملتهبة كيفما تفرض عليها مقتضيات مصالحها الاستراتيجية؟
لا عزاء للسوريين القادمين من أقصى المهانة ليتسولوا أعمارا معدودات على رصيف أي حدود باردة في عالم كان عربيا حتى تنازل طوعا عن أبجدياته القديمة، وقتل كل خيوله الأصيلة في معركة لن ينتصر فيها أحد.
أيها السوريون الباحثون عن الخلاص في عالم فقد براءته، لكم الله! ولقتلاكم الذين تجاوزت أكفانهم المئة ألف العفو والمغفرة من إله لا يأبه لتقارير السيد لوثر أو لردود السيد محمد المومني. ولملايين المهجرين منكم الشتات والانتظار الممل على قارعة السياسة المماطلة، ولمن تبقى منكم رابضا فوق أفراخه يحمي أجسادهم الصغيرة بأعوامه الآيلة للسقوط المجد والفخار. وللسيد الممانع البقاء والسؤدد فوق كرسي تحميه الأقطاب المتصارعة من كل جانب. أما بلهاء الساسة وصغار اللاعبين فوق مسرح المهانة، فيمكنهم الانتظار خارج قاعة مؤتمر جنيف الثاني والثالث والرابع، فلربما تسقط عليهم صقور الغرب المراوغة أو غربان الشرق الممانعة بعضا من المن أو شيئا من السلوى بعد انتظار قد يطول كثيرا.
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com