رأي 11
تطهير الإعلام من الفلول والثوار والليبراليين!
عادت نغمة المطالبة بتطهير الإعلام لكى ترتفع فى موجات يطالب بعضها بتطهيره من فلول النظام السابق وأعداء الثورة الذين يشهّرون بالثوار، ويطالب بعضها الآخر بتطهيره من الثوار الذين يحرضون على الفتنة وعلى الوقيعة بين الشعب والجيش، ويطالب بعضها الثالث بتطهير الإعلام القومى على وجه الخصوص من الليبراليين الذين يسخّرونه للتشهير بالأغلبية التى أعطاها الشعب ثقته فى الانتخابات.
وأدهشنى أن من بين الأصوات التى تطالب بذلك إعلاميين وصحفيين، وهو ما ذكّرنى بما حدث فى خريف 1978، عندما عاد الرئيس الراحل «أنور السادات» من «كامب ديفيد» بعد توقيع الاتفاقية التى تحمل هذا الاسم، إذ أقيمت الأفراح على صفحات الصحف المصرية، على شكل إعلانات تأييد ومبايعة، تنشرها الوزارات والهيئات والشركات، ونصبت الزينات وأقواس النصر فى الشوارع والميادين، ولعلعت الزغاريد والأغنيات فى محطات الإذاعة وبرامج التليفزيون، ولم تكن تتوقف إلا لإذاعة برقيات التأييد والمساندة.
من بين هذه البرقيات لفت نظرى برقية أرسلها نقيب الصحفيين -آنذاك – المرحوم «على حمدى الجمال» إلى الرئيس السادات، يعبر فيها باسم جميع الصحفيين المصريين عن تأييدهم «جميعا» للخطوة الشجاعة والتاريخية التى قام بها.
فى مساء اليوم الذى نشرت الصحف فيه البرقية، وفى اجتماع عقدته النقابة لمناقشة بعض الأمور النقابية، طلبت الكلمة، فتردد النقيب فى السماح لى بالكلام، اشفاقا علىّ فى الغالب، وفى لهجة تذكير وتحذير، قال لى برقة وتهذيب – كانا شائعين عنه – إنه لا يزال يواصل جهوده لإلغاء قرار فصلى من عملى فى جريدة «الجمهورية»، وكأنه يتمنى على ألا أقول كلاما يصعب عليه مهمته لكننى تكلمت لأقول له إننى انتخبته لينوب عنى – كنقيب للصحفيين – فى الدفاع عن حقوقى المهنية والاقتصادية، ولكننى لم أنتخبه ليعبر عن آرائى السياسية، ولم أفوضه بذلك وأن من حقه أن يكتب مقالا أو أن يرسل برقية، يؤيد بها اتفاقيات كامب ديفيد، على أن يكون ذلك باسمه كشخص أو كرئيس لتحرير «الأهرام»، أما الذى لا يحق له، فهو أن ينسب هذا الرأى لـ«جميع أعضاء النقابة» لأننى – وأنا واحد منهم – لا أوافق على ما انتهت إليه مباحثات الرئيس السادات فى كامب ديفيد، ولم أفوض النقيب فى أن يعبر عن رأيى فى هذا الموضوع، أو فى أى موضوع سياسى آخر.
ولم يعلق النقيب على ما قلته، وانتقل بلباقة إلى موضوع آخر، ولكن الكاتب الكبير الراحل «إبراهيم الوردانى» كتب فى الأسبوع نفسه، وعلى صفحات «الجمهورية» يعلق على ما قاله من سماه «هذا الصحفى القمامة» – الذى هو العبد لله ولا فخر – فى اجتماع عام بالنقابة، مطالبا بتطهيرها من الخونة الذين يعارضون رغبة الشعب المصرى فى السلام.وفى العام التالى 1979 وبعد شهور من توقيع المعاهدة المصرية -الإسرائيلية، أحيل عدد من الكتاب والصحفيين إلى المدعى العام الاشتراكى، وكان على رأسهم «محمد حسنين هيكل» و«محمد سيد أحمد» و«أحمد حمروش» و«فريدة النقاش» والشاعر «أحمد فؤاد نجم» والعبدلله، وكانت التهمة العلنية الموجهة إلينا هى أننا نشرنا – فى الصحف العربية – مقالات تسىء إلى سمعة مصر، وتضر بمصالحها، أما التهمة الحقيقية، فهى أننا كنا نعارض اتفاقيات كامب ديفيد واتفاقية الصلح المنفرد بين مصر وإسرائيل، ضمن حركة محدودة، لكنها نشطة شملت آنذاك كثيرين من المثقفين والسياسيين والمشتغلين بالشأن العام، وقيل إن التحقيق سياسى، وأن نتيجته سترفع إلى النقابات المعنية لاتخاذ ما تراه من إجراءات ضد أعضائها.
وبعد شهور أخرى وفى سياق الضيق الشديد الذى كان يبديه الرئيس السادات بكل الذين يعارضون سياسته تجاه الصراع العربى -الإسرائيلى شن حملة ضارية ضد عدد من الصحفيين المصريين الذين كانوا يقيمون آنذاك فى بلاد عربية وأوروبية ويعملون فى صحفها ويعارضون سياساته، مطالبا بفصلهم من عضوية النقابة، مما يترتب عليه – طبقا للقانون -حرمانهم من مزاولة المهنة، وكان من بينهم عدد من ألمع الكتّاب والأدباء الذين يجمعون بين ذلك وبين العمل فى الصحافة، وعدد من ألمع الصحفيين أتذكر من بينهم «محمود أمين العالم» و«محمود السعدنى» و«صافيناز كاظم» و«غالى شكرى» و«سعد زغلول فؤاد» و«أحمد عبدالمعطى حجازى».
ولكن مجلس نقابة الصحفيين الذى كان قائما آنذاك – برئاسة «على حمدى الجمال» ثم «كامل زهيرى» – قاوم ببسالة، وفى ظل ظروف عسيرة، الضغوط المكثفة التى بذلها الرئيس السادات لاستصدار قرارات فصل هؤلاء من النقابة، تقديرا منه أنها بداية سوف تعقبها موجة من قرارات الفصل لأسباب سياسية، وأعلن النقيب «كامل زهيرى» أيامها الشعار الشهير أن عضوية النقابة كالجنسية لا يجوز إسقاطها.
وكان لافتا للنظر أيامها أن أنصار النظام، ومؤيدى سياسته من الصحفيين، وكانوا يشكلون الأغلبية من أعضاء النقابة، لم يكونوا – فيما عدا استثناءات قليلة – متحمسين لقرارات الفصل، بما فى ذلك اقطابهم، وهو ما دفع السادات للإعلان عن نيته فى تحويل النقابة إلى ناد، مما كان يعنى أن تسترد الحكومة سلطة الترخيص بمزاولة المهنة، وهى من أعمال السلطة العامة التى تتنازل عنها للنقابات، فيتاح لها بهذا الاسترداد أن تسمح لمن تشاء بأن يكون صحفيا، وأن تحرم العمل الصحفى على من تشاء، لولا أن الصحفيين على اختلاف تياراتهم وأجيالهم وتناقض مواقفهم من سياسة النظام تمسكوا بقاعدة أن عضوية النقابة كالجنسية لا يجوز إسقاطها إلا لأسباب مهنية، ولا يجوز بالذات إسقاطها لأسباب سياسية.وكان وراء موقفهم ذلك تجارب مريرة، أكدت لهم أن الفلك دوار وأن الزمان متقلب، وأن سياسة النظام لا تثبت على حال، فهو فى يوم اشتراكى ميثاقى، صديق للاتحاد السوفييتى، وعدو لإسرائيل، وفى اليوم التالى رأسمالى انفتاحى حليف للولايات المتحدة وصديق لإسرائيل، وأن الأخذ بقاعدة فصل الذين لا يوافقون على سياساته من الصحفيين، سوف تنتهى بفصلهم جميعا.. وأن من مصلحتهم أن يحافظوا على حق كل منهم، فى ممارسة المهنة، مهما اختلفوا فى الرأى ومهما تناقضت رؤاهم السياسية.
ذلك هو درس الأمس الذى لا يجوز أن ينساه صحفيو وإعلاميو اليوم والغد.