مصر الكبرى
“كتاب النيل” إطلالة على التاريخ والمقاومة
 
زين العابدين فؤاد وشعره في حب مصر
كلمات تطوف بوقائع وصفحات الفعل الوطني بلغة متدفقة بالعاطفة
كتب – يسري حسين :
عندما دخلت جامعة القاهرة على مشارف السبعينيات ، إلتقيت شعر زين العابدين فؤاد ففتح أمامي برقة بالغة من كلمات وصور أبواب مصر لأرى مقاطع التاريخ الدامي من تراكم لحكام ومستبدين يخنقون الشمس ويسلبون متعة الحياة . غير أن الشعب المصري من خلال تنظيم سري محكم استطاع النجاة لتمسكه بالإيمان الوطني والقناعة بالبقاء بينما الآخرين إلى زوال واندحار .
أدمنت شعر زين العابدين فؤاد خصوصاً وإنه كان معنا يتجول في أروقة كلية الآداب ويلقي الشعر في الطرقات ونتحلق حوله لسماع كلمات المقاومة من نفس صافية بلورية تلمع على سطوحها صفحات كتاب النيل .
كان زين معنا في قسم الفلسفة وقد سبقنا بعام وعلمت إنه قضى عدة سنوات بكلية الهندسة ، لكن ظروف المطاردة العنيفة منعته من إكمال دراسته فحول أوراقه إلى كلية الآداب وانضم إلى قسم الفلسفة ، الذي دخلته بدوري ووجدت الشاعر مع مجموعة نادرة من الأصدقاء يتحدثون دائماً عن حب مصر وعشقها ويتأملون في كتاب تاريخ من المقاومة والصمود لتحقيق العدل .
كنا في أجواء ما بعد نكسة 1967 وكانت المرارة عالقة في حلوقنا والأفكار تعصف بنا . وأعطى < زين > علامات لفهم التاريخ من خلال شعره الذي يطوف بأرجاء الجامعة ويبحث عن كلمة حرة تثور وتحرض لرفع علم الوطن وتحدي صلافة العدو ، الذي جاء إلى الضفة الأخرى من القناة وتسرب إليها لعجز فظيع في ثوب الديمقراطية ولفساد وعفن وتسلط ومنع حيوية للمصريين كان يمكن لها المقاومة والصمود وصد جحافل الغزو .
شعر زين يحفز على التحدي وهو يعود بنا دائماً إلى ثورات الطلاب المصريين ضد طغاة أجانب حكموا مصر بالحديد والنار والتسلط .
شعره يغوص في أوراق الحركة الوطنية ويرسم صورة رائعة ومجسمة لموقعة كبري عباس ، عندما أطلق جنود الاحتلال النار على صدور طلاب عارية ، فسقط شهداء وتجسد يوم الطالب العالمي للتضامن مع أبناء مصر في المدارس والجامعات .
كانت جامعة القاهرة التي دخلتها في بداية السبعينيات مختلفة تماماً تموج بالشعارات الوطنية ، لأن النكسة حررت قوى التغيير من خوف طويل نتيجة سجون ومعتقلات وفصل وتشريد واستخدام القبضة الحديدية لقمع الأصوات الديمقراطية .
الجامعة كانت وعاء لانتفاضة استمدت قوتها ونيرانها من أشعار زين العابدين فؤاد الذي كان موجوداً بقصائده في كل مكان .
تعرض الشاعر للسجن لكنه لم يتراجع أو يضعف أو يسقط في محنة التمزق ، لأن الشعر قادر على الانقاذ وإعادة وهج الكلمة وطرحها أمام الناس وتجسيد أفكارهم ومشاعرهم ولتاريخهم أيضاً .
أحببت الناريخ من خلال شعر زين العابدين فؤاد ، الذي يردد دائماً ملحمة أحمد عرابي وتصديه للخديوي توفيق والسلطة الباغية المسيطرة على وادي النيل من أجانب فحكموا وسيطروا بجنودهم حيث دخلوا واحتلوا المحروسة لسنوات طويلة .
ويرحل زين في شعره عبر مراحل الحركة الوطنية ويقدم لقطات سريعة مركزة ويستخدم كلمات معبرة وموحية تترجم عاطفة وطنية جياشة مدركة لحقيقة التحدي وداعية لبوصلة الاتجاه الحقيقي للوصول لعدل ومساواة وإطلاق الكلمة الحرة لترتفع فوق الجامعة وتنطلق منها إلى كافة أرجاء الوطن .
دائماً يرى زين العابدين فؤاد أن الجماعة منبر للحرية وتحريك البشر للتعرف على حقوقهم والمطالبة بها .ويتوجه من هذه المؤسسة إلى القوى الشعبية التي لها مصلحة في هزيمة الظلام والقهر والخروج من ربقة السيطرة الداخلية والخارجية .
ظل < زين > صوت الجامعة وللحركة الطلابية وخرج شعره خارج أسوارها إلى عامة الناس ، عندما طبع ديوانه الأول < وش مصر > بالعامية الجميلة ذات القاموس السري الذي يطوف بأرجاء الوطن ويقتطف المعاني الموحيه ويستخدم الصور والأخيله التي تحرك الوجدان وتبث الثقة .
كنا في كلية الآداب نستمع إلى شعر زين العابدين في ندوات تعقد ومهرجانات ينظمها اتحاد الطلاب ، الذي كان قوياً في هذه الفترة وقادراً على تحدي الإدارة وفرض رموزه الثقافية والدعوة إلى وطن كريم محرر من القهر والاستغلال .
أذكر التجمعات الضخمة والحاشدة في مدرج 78 بكلية الآداب والاستماع إلى شعراء العامية بجانب زين ، مثل أحمد فؤاد نجم ، فؤاد قاعود ومحمد سيف ومجموعة كبيرة كان الشعر زادهم وأسلحتهم لتحقيق وجودهم ، فالنكسة كانت ضارية والخوف سقط والشعر انطلق من داخل الجامعة لإيقاظ الجميع .
وجاءت انتفاضة الطلاب في يناير 1972 لتجسد تراكمات بث الشعر للثورة والتمرد . وخرجت حركة طلابية عارمة تواجه سلطة السادات الجديدة التي تغنت بالديمقراطية لكنها تقمع بأسلوب مختلف ومراوغ وتتحدث عن أنياب الديمقراطية الشرسة .
هذه الحركة كان زين العابدين نجمها بجانب خطيبها المفوه الراحل أحمد عبد الله رزة الذي رافقته في رحلة لندن والكويت والعراق وعرفت فيه شخصية المناضل المثالي العاشق لمصر ولأرضها وناسها البسطاء .
ارتبطنا مع جيل وطني بكفاح الحرية لتحقيق العدالة ولتعزيز دولة الشعر المقاوم . وعلى الرغم من الهجرة والطواف ببلاد وأماكن ومدن ، ظلت هذه المرحلة في الذهن لا تفنى ولا تتبدد مع شرائط الشيخ إمام وأشعار زين العابدين فؤاد ونجيب سرور وأحمد فؤاد نجم وسمير عبد الباقي .
كانت مرحلة متوهجة من تاريخ الشعر والأدب في مصر مع السينما الجديدة وفيلم < العصفور > ليوسف شاهين والرغبة في تحرير الوطن من قيود التخلف وبث الأمل للسيطرة على الهزيمة الشرسة التي غرست أنيابها الحادة في أجسادنا وروحنا .
وقد ظل شعر زين دائماً معلقاً في وعينا بهذا الزخم من كلماته المحفورة داخلنا إذ يحدثنا عن وطن يقاوم ولا يركع مهما اشتدت درجات الظلم والبغي معاً .
عندما تفجرت ثورة 25 يناير تحققت نبؤة الشاعر الذي ظل يتحدث لسنوات طويلة عن أن سجن مصر شبه مستحيل . وقد ردد الناس شعره في الميدان الذي تغني ببعض مقاطعه الشيخ إمام عيسى ، خصوصاً قصيدته الرائعة  < مين يقدر ساعة يحبس مصر > .
زين لا يزال شعره يبرق في كل مكان . وحدثني صديق من باريس إنه استمع إليه وهو يلقي شعره ويغوص في تجربة يانعة ومتجددة بأزهار الياسمين والفل والعنبر المصري وتفوح رائحة كلماته في كل الأرجاء ، حيث يوجد النبض المصري في الداخل والخارج .
زين العابدين فؤاد ليس مجرد شاعر ، مع إن الشعر جوهره الكامل ، لكنه هذا الإنسان الرائع المحب للحياة والذي كان يشعر بنور ذاته العاشقة لمصر تنير الزنزانة المظلمة التي تم حبسه فيها عقاباً على هذا الحب .
إن الشاعر يغني على قيثارة الكلمات في حب هذا الوطن العظيم الذي نعشقه على الرغم من احباطات ورياح سوداء تهب من داخله تريد اقتلاع الزهور وإطفاء شمس النهار .