مصر الكبرى
الثقافة المصرية والرهان على أحلام البشر
 
فيصل دراج
دخل المصريون إلى عالم الثورة، في القرن العشرين، مرتين، من دون أن يعثروا على الخلاص المرتجى. جاءت المرة الأولى مع ثورة 1919، التي عمّت أقاليم مصر جميعاً، وسردها نجيب محفوظ في ثلاثيته ورثاها معاً، وجاءت الثانية عام 1952، التي انتظرها الروائي طويلاً وقادته إلى يأس صريح، أعلن عنه في روايته :»أولاد حارتنا». كان في الثورة الأولى إرادة شعبية حاسمة، وكان في الثانية إرادة نخبة عسكرية، اعترفت بالشعب ونَهَته عن الكلام. اتكأ المصريون على أطياف الثورتين وأضافوا إليها قهراً مستجداً وذهبوا، في مطلع القرن الحادي والعشرين، إلى ثورة ثالثة، عمّت بدورها الأقاليم جميعاً، ولا تزال تبحث عن سبل الخلاص.
تناتجت الثورة المخذولة الأولى، ثقافياً، في أفكار طه حسين، التي واجهت أكثر من حصار، وتراءت الثورة الثانية، التي خنقتها أخطاؤها، في توسيع التعليم وإطلاق قيم تحررية معوّقة. كان للثورتين سياق مختلف عن ثورة يناير 2011، التي تطرح على النظر أسئلة سهلة – صعبة في آن: ما هي الثورة، ذلك الجسد المترامي المتعدد الوجوه الذي لا تمكن رؤيته، وما هي الثقافة، تلك الكلمة التي تحتفي بالعموميات وتترك التفاصيل جانباً. ويغدو الأمر أكثر صعوبة حين الاقتراب من موضوع: الثقافة والثورة، الملتبس بالمدينة الفاضلة، وتتاخم الصعوبة اللغز أمام: الثورة الثقافية، التي تبدو لدى البعض شرطاً لكل ثورة ناجحة.
هذه المواضيع، في وجوهها المتعددة، كانت موضوع المؤتمر الثقافي العالمي في القاهرة، الذي دعت إليه وزارة الثقافة المصرية بين 14- 16 نيسان (إبريل) 2012 وشارك فيه مصريون وعرب وأجانب، قدموا وجهات نظر متنوعة. حمل المؤتمر عنوان: «الثورة والثقافة»، مؤكداً الثورة مرجعاً لغيرها ومعيّناً علاقة نقدية تنطلق من الثورة وتعود إليها. يفصح العنوان عن طموح القائمين على المؤتمر وعن آمالهم الكبيرة، فهم ينظرون إلى ما تحقق ويؤمنون بأن الأمور التي لم تتحقق سائرة إلى تحقّقها، موحدين بين الإرادة والأمل. بيد أن الطموح المشروع لا يلبث أن يوقظ في العقل الفضولي موضوعين لا تنقصهما الشرعية: فالثورة المصرية الجديرة بلقبها تماماً، لا تزال موزعة، في وضعها الراهن، على ثلاث ثورات: ثورة منجزة أطاحت رأس النظام في رمزيّته الثقيلة والمركبة، وثورة منجزة محاصرة بما ذهب ولم يذهب تماماً، وثورة ثالثة مشتهاة تتحرر من رموز القهر والعماء وتندفع إلى الأمام.
إذا كان في الثورة الكاملة والناقصة معاً ما يثير الكثير من الأسئلة، فإن لمفهوم الثقافة مداخلاته التي تثير الارتباك في مستويين على الأقل: هل الثقافة والثورة عنصران مستقلان يحيل كل منهما على الآخر، إذ الثقافة تحرّض على الثورة والثورة تحرّض على ثقافة جديدة، أم أن الثورة المستقلة بذاتها تمثل فعلاً ثقافياً بامتياز؟ لا تتسم وجوه السؤال المتعددة بالخطأ، وإن كان فيها، بسبب تميّز الثورة المصرية الجديدة، ما يستعيد قول الشاعر الفرنسي بول إيلوار: «الإبداع الأكمل هو الثورة». في القول الشعري ما يستدعي أقوالاً أقل شعرية: إن كانت الثورة إبداعاً لا يحاكى، فما هي أشكال الإبداع الأقل مرتبة، وما دور ألوان الإبداع المختلفة في «انبثاق الثورة»؟ يأتي الارتباك الثاني من تعريف موضوعي جامع للثقافة لا يلتفت كثيراً إلى هؤلاء «المتأنقين» الذين يقسمون الكون إلى مبدعين وغير مبدعين. فإذا كانت الثقافة منهجاً شاملاً في الحياة، كما يقول ريموند ويلمز، فهل يضاف هذا المنهج إلى الثورة أم يشتق منها، وما هو احتمال أن تصبح الثورة – الثقافة، منهجاً في الحياة؟
لا جواب إلا ما يسمح به حوار المدافعين عن الثورة، ولا حوار إلا ما تتيح مداخل الثورة المتعددة. شيء قريب من وضع مدينة القاهرة اليوم، التي لم تعد على ما كانت عليه، ولم تتعرّف بعد على ما تريد أن تكونه. من هنا يأتي تعبير «الطريق إلى»، الذي اقترن بمواضيع المؤتمر، ذلك أن للطريق إرادة لا ترتهن، دائماً ، إلى إرادة السائرين فوقه. فقد تضمنت الجلسة الأولى، الخاصة بمقدمات الربيع العربي، مداخلة للباحث الاقتصادي أحمد النجار عنوانها : «الأداء الاقتصادي والطريق إلى الثورة المصرية»، وتحدث المؤرخ محمد عفيفي عن «الطريق إلى الربيع العربي» في «رؤية تاريخية» مساوياً، ضمناً، بين الربيع والثورة، وبين الثورة وفصل بهيج من فصول العام. أما ليلى سويف التي ترجمت الوقائع إلى مفاهيم، فقاربت «الطريق إلى 25 يناير 2011». تتراءى الثورة، والحالة هذه، واقعة تاريخية متعددة المداخل، يشير إليها الجوع والاضطهاد والحالمون، وينفذ إليها شجعان لا تعوزهم المجازفة. تجاور الثورة المدينة الفاضلة، التي تسكن متخيّل الإنسان المتمرد على القحط والكفاف.
لا يدفع البؤس إلى الثورة، فما يدفع إليها وعي متحرّر من بؤسه، كما لو كانت مدرسة نوعية، تجلو معنى الكرامة وتزهد بتعليم الأبجدية البسيطة. ولعل الدلالة الثقافية للثورات، التي يطيح فيها بسطاء البشر رؤوساً مستبدة، هي التي تقصّر المسافة بين الوقائع السياسية والوقائع الثقافية، إذ في مأساة تل الزعتر ما يقترح على محمود درويش قصيدة كبيرة، وإذ في ألحان سيد درويش ما يعلّم العمال مبادئ الإضراب. ولهذا استُهل اليوم الثاني بعنوان لا ينقصه الإيحاء: «مسارات الثورة وخرائطها المعرفية»، ذلك أن في جسد الثورة الهائل مواقع متعددة للإبداع الثقافي.
فتحدث الإسباني خوسيه ماريا باز عن : «الربيع العربي: ثورة ثقافية»، متوقفاً أمام ثقافة الشباب الجديدة، التي تحسن أدوات التواصل الاجتماعي، قبل أن تأخذ باقتراحات الإيديولوجيات. أما اللبناني كريم مروة، الثمانيني المتمسك بيفاعة ذهنية، فأضاء «طرائق الإبداع في البحث عن مستقبل بلداننا»، قائلاً بالاعتراف المتبادل بين البشر منهجاً في الحياة. وهناك هشام جعفر في مداخلته المثيرة للفضول: «الثورة المصرية: قراءة في النماذج المعرفية الجديدة»، التي تؤكد أن الثورة نموذج معرفي تحتشد فيه نماذج معرفية متعددة.
من أين تأتي الثورات وكيف يحلّلها الذين تورطّوا ببنائها، أي هؤلاء الذين إذا قبلوا بواجب أخلصوا له حتى النهاية. كان من بين الحضور من تحدث عن «ابستيمولوجيا الثورة»، مستضيفاً من جديد تعبيراً قديماً: «علم الثورة»، كما لو كانت اللغة المفهومية الواضحة كفيلة بتقويض أجهزة الدولة الفاسدة. غير أن المنطقي المجرد، بلغة فلسفية مدرسية، بعيد البعد كله عن الخطاب السياسي – العملي الذي قال به متحدثون لا يفصلون بين الثقافة والحياة (حال أحمد بهاء الدين شعبان، أنور مغيث، طارق النعمان، …). بل إنه كان في اختلاف المقاربات والمواضيع، الصادرة عن الحياة والثورة معاً، ما قدم صورة عن: أشكال الخطاب في اللحظة الثورية، التي تحتقب العامية والفصحى، وحديثاً دقيقاً عن «أزمة الثقافة الدستورية في مصر» (نبيل عبد الفتاح)، وتحليلاً رهيفاً لـ «هتافات وكتابات الثورة المصرية»، وصولاً إلى «الكاريكاتير، ذلك الفن الذي يقوم به قلم مفرد يرسم مخزوناً جماعياً، من الألم والسخرية والسخرية المتألمة في آن.
وكان للمقارنة مكانها، في مؤتمر ضم إسبانيين ويونانيين وفيلسوفاً نمسوياً وأصواتاً من أميركا اللاتينية وكان فيه، بالجملة، أربعون مشاركاً، وأكثر. فهناك المقارنة بين ثورة مصر وتونس (صالح مصباح)، وَرصد فروق التحوّل الديموقراطي بين إسبانيا وتشيلي، وصولاً إلى قضايا لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، الذي يردّ إلى مسيحية خاصة تصالح الماركسية أو إلى ماركسية منفتحة على الحياة وعلى الوعي الديني للعالم. لذا كان جميلاً ومفيداً أن يذكر المؤتمر اسم الشاعر والأب أرنستو كاردينال، الذي كان مسؤولاً في الثورة الساندينية في نيكارغوا، قبل أن يقوّض أعمدتها «مقاتلو الحرية»، بمباركة من الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان.
من أين تأتي الثورة؟ تأتي من انتصار الإنسان المنتهك لكرامته، ومن اكتشاف المقهور لقوته، ومن قتل الخوف الذي يقتل معه عادات يباركها المستبدون. وتأتي ثقافة الثورة من مراجع مرئية وغير مرئية: من ثقافة ثورات سبقت تحتاج إلى تعديل وقراءة جديدة، وهو ما لمح إليه حسن حنفي، ومن ثقافات فرعية وطنية لا تعترف بها سلطات لا تعترف إلا بأجهزتها القمعية، وتأتي من خطاب النهضة العربية الذي سارعت إلى وأده «دولة الاستقلال الوطني»… ولعل تعددية مراجع «الثقافة الثورية» هي التي فرضت أوراقاً نظرية (على مبروك) ومعاينات يومية (بسمة الحسيني ووحيد الطويلة) وشهادات فردية وجماعية (حسن طلب، وحجاج أدول)… غير أن تعددية المداخلات لن تجيب عن الأسئلة جميعاً، ذلك أن ثقافة الثورة، كما لغتها، سيرورة تصنعها الثورة، فلا وجود لثورة تستعير إبداعها من مكان آخر، ولا من زمن غير المستقبل الذي تسير إليه. مع ذلك فإن ثقافة الثورة، في شكلها الأكثر وضوحاً، تتأتى من الفضاء السياسي الذي جاءت به، حيث البشر يتعلمون الكلام والحوار والاختلاف والاعتراف المتبادل، بعيداً عن المدرسة التقليدية والنظام الأبوي، وتلك العين الرقيبة التي تخترع الصواب والخطأ. وهذه الحرية الواسعة هي التي حوّلت الجدران إلى صحف يومية (مداخلة كمال نعيث)، واستولدت لغة سياسية مقتصدة قوامها الشعارات، … إنه تحوّل الذرات البشرية المذعورة إلى جمهور فاعل يقف على عتبة الديموقراطية، ويعبر عتبة السياسة إلى الحداثة والديموقراطية معاً.
في الكلمة الافتتاحية لمح وزير الثقافة شاكر عبد الحميد إلى دور الثقافة في حماية الثورة بأدوات تشتق من الثورة ولا تضاف إليها، بعيداً عن «الثقافة الطقوسية»، بلغة فالتر بنيامين، التي تعطف الثقافة على «النخبة» وترمي بالعوام وثقافتهم بعيداً. كما تحدث الأمين العالم للمجلس الثقافي سعيد توفيق عن أفق الثقافة والثورة بلغة نظرية تستلهم القيم التحررية والكونية. انطوى الكلام، في شكليه، على لغة تفصح عن «زمن جديد»، تتصادى فيه كلمات التحرر والتمرد، ويرى الواقع المعيش، في حركته الذاهبة إلى الأمام.
كان في الحضور، منذ الافتتاح، ما يصرّح بشيء ضاع وانقلب، بدءاً بملصق يتوسد المنصة، منسوج من لون أحمر وأعلام مصرية وحشود ناظرة إلى السماء ، مروراً بمثقفين يصفقون لثورة قائمة وأخرى لاحقة، حال السينمائي العجوز توفيق صالح، الذي لا يزال ينتظر منذ خمسين عاماً درباً جديداً يهزم «درب المهابيل»، والناقد حسين حمودة والروائية مي التلمساني والروائي منتصر القفاش.
والقاهرة في مكانها تتنفس وتنتظر، والذين جابوا شوارعها، بهتافاتهم المدوية، ينتظرون تحقق أحلامهم، والذين آثروا الركود لهم ما ينتظرونه، وهواء القاهرة لم يستقر بعد على ما كان قد استقر عليه منذ عقود.
وتبقى الحشود وأطياف الرغيف والمساجد القديمة، ويبقى ذلك المصري العالي الكرامة، الذي إذا أُلقيت عليه التحية قال: «روح يا شيخ الله يسعدك في الدنيا والآخرة»! إن كان المثقفون السلطويون يسوقون بضاعة كلامية، تُقصي الإنسان عن جوهره، فإن ثقافة الثورة توحد الإنسان المنقسم، وتعلم الطفل الملقى في العراء مبادئ المساواة.