مصر الكبرى

05:29 مساءً EET

“بحيرة البجع” حكاية تُلهب المشاعر وترفض الصمت

لندن تصفق لرائعة الروسي تشايكوفسكي
مصر فتحت أبوابها مبكراً لفن الباليه دلالة على حضارة شعبها
كتبت – مروة فهمي :
تحول هذا الموسم الفني في لندن ليكون الاحتفاء المستمر بالعبقري الروسي تشايكوفسكي وأعماله الرائعة التي نسجها من موسيقى جامحة متدفق تصور لوحات تنبط بالرقص التعبيري لفنون الباليه ، المتألقة في صوغ قصصها وتحويلها من عالم الكلمات إلى أفق عامرة بمشاعر تتحدث عن أساطير روسية قديمة ، وتستخلص منها إيحاءات قابلة للتعبير مع تفسير العصور والأفكار المختلفة .

تشايكوفسكي هو بطل هذه الأيام ، ليس في لندن فقط وإنما في عموم بريطانيا ، فالفرق المختلفة تعزف أعمال السيمفونية في قاعات جلاسجو وإدنبره وكرديف وسوانزي بويلز . وأعماله لفن الباليه تجدد نفسها في طريقة الاخراج واستخدام الديكورات والمناظر ووضع بعض التفسيرات المعاصرة وترشيدها في إطار المحافظة على روح العمل نفسه ، عندما جرى تقديمه في موسكو نهاية القرن التاسع عشر .
الموسيقار الروسي هو قمة المرحلة الفنية لهذه المدرسة التي تألقت في العهد القيصري . واستطاعت هذه المدرسة البحث عن لغة موسيقية مختلفة واهتمت بالتراث والتعامل معه ومعانقة جذوره العميقة داخل الشخصية الروسية .
وأنا تأثرت بالمدرسة الروسية لحدود بعيدة ، لأن أساتذة معهد الكونسيرفتوار بالقاهرة الذي تعلمت فيه جاءوا من هناك وحملوا معهم سمات ثقافة معينة في طريقة تدريس مناهج العزف وفهم التراث الموسيقي بشكل يختلف عن المدرسة الفرنسية أو الألمانية .
وعندما عملت عازفة للكمان بفرقة دار الاوبرا المصرية كان زملاء لي ينتمون إلى مدرسة العزف الروسي بخصائص واضحة تُعبر عن روح عميقة لها حضورها وفهمها وطريقة تفسيرها .
وقد حافظ العازفون الروس على ارتباطهم من ناحية أخرى بالحياة المصرية القريبة بشكل ما من العاطفة الروسية ، إذ يجمعنا معاً هذا الوله الرومانسي والارتباط بالأرض والمكان ومحبة الطبيعة ونسيمها الصافي والراقي المعبر عن نبضات الوجدان .
تشايكوفسكي في جميع أعماله يخلط في موسيقاه بين وهج التدفق العاطفي الجارف في أعلى درجاته ، ثم العود إلى مياه هادئة تنساب في رقة وعذوبة . ولعل كونشيرتو الكمان أعلى درجات توضيح أسلوبه المتدفق وصوغه لعواطف الإنسان في تقلباته المختلفة بين الجنوح والهدوء معاً .
طافت في ذهني تلك الانطبعات خلال استمتاعي بعرض باليه < بحيرة البجع > الذي تعيد فرقة الباليه الإنجليزية الاحتفاء به ضمن هذا الموسم مع أعمال الموسيقار الروسي الاخرى مثل < كسارة البندق > .
هذا الباليه الأخير شاهدته على خشبة مسرح ريتشموند حيث أعيش بالقرب من تلك المنطقة . وقد جاءت فرقة باليه موسكو إلى لندن خصيصاً لتقديم عدة عروض خلال موسم قصير لافتتاح أيام وشهور السنة الحالية .
جاء عرض الباليه في حالة تدفق من الجمال والصور التي تم رسمها بحذق شديد وبمهارة تواكب موجات الموسيقى الصاخبة لفريق الآداء على خشبة المسرح . كان العرض جميلاً لراقصين وراقصات من مدينة موسكو . يأتون إلى لندن لاستعراض فنونهم التي تمنحهم ريادة داخل هذا الفن الرائع . وهذا يؤكد أن الفنون تملك لغة عالمية ومفردات قاموس عروض الباليه مفهومة في أرجاء العالم مع انه لا توجد لغة هناك ولا نصوص وإنما فقط عزف الموسيقى والتعبير بالرقص الراقي .
الغرب كله يعشق فن الباليه لتجانس الموسيقى مع حركات الرقص الإنساني التعبيري . فهنا لا توجد لغة وإنما كائنات بشرية تتميز بالرقة وروحانية بالغة تتفاعل مع هذا الفن الذي يتطلب مهارة فائقة وتدريب صعب للوصول إلى رشاقة ومرونة للجسم وقدرته على تجسيد فقرات الموسيقى والتعبير بطريقته عن دراما القصة المعروضة والمصاحبة للعمل الموسيقي .
في دار الأوبرا الإنجليزية الشهيرة القريبة من ميدان الطرف الأغر تابعت الرائعة الأخرى للفنان الموسيقي تشايكوفسكي والتي تحمل إسم < بحيرة البجع > هذا الباليه منذ عرضه للمرة الاولى في موسكو وهو يعيش ويتنفس على خشبات المسرح في أرجاء العالم ، يمكن رؤيته في طوكيو ونيويورك ووارسو وبرلين وفي أرجاء العالم المتحضر كله ، مع احتفاء بطريقة عرضه وتكوين الفرقة العازفة له باحتراف شديد إذ يحتاج لمهارة وإتقان لمتابعة فقرات النوتة الموسيقية وترجمتها عبر < مايسترو > محترف وموهوب .
جلست في القاعة البريطانية بمنطقة سان مارتن أتابع < بحيرة البجع > وأتنقل مع العرض من مشهد لآخر في ملحمة موسيقية تصل إلى درجات عالية من الصخب ثم تعود إلى حنان متدفق بلغة كتبها تشايكوفسكي من داخل وجدانه وفي لحظات إلهام بالغة التأثير .
أما الرقص نفسه للفرقة الإنجليزية فهو محاولة ناجحة للوصول إلى قمة المدرسة الأخرى الروسية النابغة في هذا الاتجاه .
واعترف أن الانجليز نجحوا في الاختيار ، وهذا يترجم ما يقال عن أن الموسيقى الكلاسيكية إنسانية وهي تراكم لخبرات طويلة من الإبداع البشري .
اللوحات الراقصة مترجمة في عناق شديد التألق للغة الموسيقار الروسي ، فتلك أعمال مكثفة من اللغة الموسيقية الراقصة وحركة الجسم في تمازج رائع مع فقرات العزف وإيقاعها الداخلي .
وعندما تشهد اللوحات تعرف لغة الحديث القائمة والصراع في قلب الحكاية ، مع إنه لا توجد كلمات منطوقة ، وإنما هناك إشارات وحركات وتناغم في خضوع الجسم للموسيقى وتحوله إلى آلة تنطق بالتدفق العاطفي المثير للألحان والجمل المنغمة .
هذا فن رفيع راقٍ يعبر عن نضج حضارات ، لذلك الشعوب التي لا تزال غارقة في أسفل خيمة التخلف لا تعرف فن الباليه ولم تسمع عنه ، لكن مصر مبكراً جداً كانت تستضيف فرق الباليه العالمية على مسرح الأوبرا القديم . ويضم الأرشيف الموجود الآن في سجلات وكتابات وقائع عن تلك الفرق التي كانت تزور مصر وتعرض على خشباتها مثل فرقة الباليه االروسية الشهيرة < البولشوي > التي جاءت إلى القاهرة وقدمت عروضها الرائعة والناجحة ، كما حكى لنا أساتذتنا في معهد الكونسيرفتوار .
كان لإنشاء معهد الباليه المصري في بداية الخمسينيات أول إنجاز معبر عن تلاحم مع ربيع الحضارة الحديثة . كانت بلادنا واثقة من نفسها وأرادت تقديم الفنون الرفيعة الراقية لأبناء المصريين . وقد تكونت فرقة الباليه وقدمت العروض الناجحة ، وهي تصر على البقاء في مناخ سلبي هذه الأيام ، لكنها مرحلة لن تستمر وسيعود الوهج مرة أخرى إلى النيل حيث دار الاوبرا تطل على تاريخه العظيم .
كنت قبل مشاهدة عرض < بحيرة البجع > للفرقة الإنلجيزية تابعت الفيلم الأمريكي < البجعة السوداء > وهو ينطلق من حكاية تشايكوفسكي ليغوص داخل قلب راقصة تؤدي دور البجعة الشريرة السوداء في حكاية الباليه المعروفة .
أعطت القصة ونبضها الموسيقي إطلالة أخرى في قلب أعماق شخصية حائرة لاكتشاف المؤثرات التي تراكمت عليها خلال ظروف طفولة حزينة وقهر خارجي وضغوط سلبت منها قراءة أبعاد شخصيتها الحقيقية .
وعندما جاءت تؤدي دور البجعة السوداء اكتشفت ذاتها المخبئة في أعماقها ولا تعرفها على الإطلاق . وجاءت أحداث الفيلم متوترة ولاهثة في أجواء تشايكوفسكي نفسها ، لكنها تنطلق من ساحات أمريكية معاصرة وفي قلب مدينة نيويورك ، لأن الفن العظيم يستطيع تجديد نفسه ويعطي البشر آداة للتفسير والقراءة ومعرفة إغواء النفس وإدراك اتجاهها .
هذا الفيلم آية في التعبير الدرامي السينمائي وانطلق من عاطفة موسيقية سجلها الروسي تشايكوفسكي . والممثلة التي أدت دور البجعة السوداء هي نتالي بورتمان وحازت على تقدير وجوائز إذ قدمت دوراً مركباً وغريباً اكتشفت من خلاله أعماق موسيقى مكتوبة منذ أحقاب طويلة لكنها لا تزال تملك صخب تفسير الحياة المعاصرة ودفعنا للابحار داخل نفوسنا لمعرفتها .
تشايكوفسكي لا يزال يؤثر على عالمنا بهذه الموسيقى وهذا الفن وتلك الامواج من جمال لا يريد الانزواء ويصر على أن يبرق ويتلألأ كلما مرت السنوات وتعاقبت الأحقاب والأيام .    

التعليقات