مصر الكبرى
الساكت عن التطرف متطرف
تهجير مائة وعشرين أسرة قبطية قسرا وبدافع طائفي لا غير من قرية دهشور في الجيزة هو أمر غير مسبوق في مصر، خطورة الأمر ليست في مجرد حدوثه ولكن في مكان حدوثه، فالقرية غالبا هي الملاذ الأخير لقيم التسامح في المجتمع ومتى ما وصل الأمر وتغلغل إلى قاع المجتمع حتى نخر سوس الطائفية في القرية فنحن أمام خطر داهم وهنا لزم الحديث وبوضوح لا مواربة فيه عن فيروس الطائفية في مصر، فالساكت عن التطرف متطرف. آن الأوان أن يتعامل المصريون مع الطائفية بالجدية التي تليق بالخطر ولكن بكل أسف ما زالت الممارسات القديمة هي التي تسيطر على السلوك المصري وبالتالي نحن أمام خطر سيتفاقم مع الأيام لأننا غير جادين في البحث عن حلول جذرية للمشكلة.
كعادة المصريين حبرت الصفحات بالحديث عن المجتمع المصري كنموذج تعايش لا نموذج تطرف، والتقى شيوخ الأزهر بأهل الكنيسة وتم المعتاد من تبويس اللحى وترديد عبارات تعانق الهلال والصليب والشيخ والقسيس وتكررت عبارات أن أقباط مصر ليسوا أقلية، كما امتشق جيل الشباب من الكتاب أقلامه منددا بتصريحات الخارجية الأميركية وهيلاري كلينتون التي تتحدث عن الاضطهاد الديني في مصر على أنها تدخل سافر في الشؤون الداخلية المصرية.
هذا بالضبط ما تدرب عليه الصحافيون والكتاب في عهد صفوت الشريف وإعلام تعليق مشكلات الداخل على الخارج كبديل عن معالجتها.
إذا كان الأمر هكذا والممارسات مستمرة بحذافيرها فلماذا الثورة إذن والثورة على ماذا إذا كانت الأفكار ذات الأفكار والسلوك نفس السلوك. تبويس اللحى ودفن الرؤوس في الرمال وترديد عبارات الهلال والصليب كلها تصب في مؤامرة الصمت التي تتجنب الحديث المباشر عن التطرف ولكن هنا جاءت عبارتي الساكت عن التطرف متطرف.
ما معنى عناق الهلال والصليب الذي فتن به المصريون؟ المعنى السطحي هو الإخاء والمحبة. أم المعنى العميق وهو الحادث في حالة مصر هو تديين كل شيء في المجتمع. الوطن ليس مكان مواطنين بل مكان طوائف، هلال وصليب، وهو أمر يصب في مشروع الدولة الدينية. سكان مصر ليسوا مواطنين بل هويات بدائية، أقباط ومسلمون وبهائيون ويهود الخ. إذن ما لزوم الثورة إن لم تكن المواطنة هي الأساس الجديد.
المصريون مغرمون بالكليشيهات السطحية مثل الهلال والصليب وكذلك مغرمون بالصور الكاذبة مثل الوطن يطير بجناحين أحدهما قبطي والآخر مسلم على الرغم من ما في هذه الصورة من طائفية مقيتة. بالطبع لا يمكن أن تتصور طائرا بثلاثة أجنحة أو أربعة وبهذا إن لم تكن قبطيا أو مسلما في مصر فأنت لست مواطنا، فلا مكان للبهائي أو اليهودي أو البوذي أو أي ملة أخرى.
المصريون لا يهمهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما حدث في العالم من تطور، هم فقط غارقون في طائرهم وجناحيه. ونتيجة لأن 40 في المائة من المجتمع لا تقرأ ولا تكتب والبقية تكتب ولا تقرأ فلا مكان لنقد جاد في مصر. وإذا ما تعرض مواطن للنقد الجاد رمي بالكفر والإخراج من الملة من قبل من يدعون أنهم يمتلكون صكوك الغفران أو رمي بالخيانة ممن يتوهمون أن لديهم صكوك الوطنية. وبهذا يتجنب المتطرفون الحديث عن المشكلة الطائفية ويرحلونها إلى خانات أخرى مثل خيانة الوطن أو العمالة أو الخروج عن الدين. هذا الترحيل أيضا في تقديري يقع في خانة «الساكت عن التطرف متطرف».
ترحيل نصف قرية من ديارهم هو نوع من التطهير العرقي والديني ولو حدث هذا في مكان غير مصر لكان محل حوار جاد في أروقة الأمم المتحدة ولكننا في مصر نعترض عل أي نقد قادم إلينا من الخارج. ندعي كل يوم أننا حضارة قديمة ولا نعرف أننا دولة حديثة العهد بالحكم الرشيد وحقوق الإنسان. نحن مجتمع قديم ولكننا أبناء دولة حديثة لم تتجاوز سن المراهقة عند الدول والتي نراها واضحة في سلوك كثير من دول العالم الثالث.
دولة لم تكتمل عند أهلها فكرة النمسا في المواطنة. ولكن من يقول بهذا في مصر يرجم في ميدان عام لأن مؤامرة الصمت تسيطر حتى عند أكثر المثقفين تعليما ممن تراهم فجأة وعليهم كل أعراض الشفونية والانغلاق متى ما تعلق الأمر بالوطنية الوهمية التي أنتجتها حقبة الاستبداد.
مصر تحتاج أن تنظر إلى نفسها في المرآة، فمصر بعد الثورة تشبه إلى حد كبير مصر ما قبل الثورة وربما أقل منها كثيرا من حيث الفضيلة.
في ذات اليوم الذي هجر فيه الأقباط من قرية دهشور تم الاعتداء على أبراج رجل الأعمال المصري القبطي نجيب ساويرس التي بها فنادق وإدارة شركاته واعتلى الدخان أجزاء من الأبراج وأحرقت السيارات وكل هذا يصب في خلق جو يقول نحن لسنا بصدد طرد الأقباط من القرى بل نحن أيضا سنطرد من مصر أنجح عائلة أعمال قبطية.
إذا كانت تلك هي الرسالة لرجال الأعمال الأقباط ممن يشكلون عصب الاقتصاد الوطني، إذن نحن أمام مخطط لتخريب الوطن أو أننا أمام الدولة الدينية التي ستخلي الوطن من رجال الأعمال الأقباط وتسلمه لرجال الأعمال الإخوان.
إذا كانت تلك هي النية فلنقم بما نقوم به بفجاجته دون تبويس لحى ودون حديث عن جناحي الوطن وعن عناق متوهم وكاذب للهلال والصليب حتى يرى العالم إلى أين وصل بنا الحال. لقد أبهرنا العالم بثورتنا والآن قد آن الأوان لنبهر العالم بطائفيتنا وعنصريتنا.