مصر الكبرى

02:38 مساءً EET

في مصر “ضلمت تاني”

تمَثَل جذوة نور الثورة في مصر كمثل لمبة كهرباء كبيرة أضاءت الدنيا، وبعدها «الدنيا ضلمت تاني»، ويروا إلى الأبد. بدت انطلاقة الثورة كمن يجرب الإنارة لأول مرة في بيت قديم أسلاكه مهترئة،

على مدى ثمانية عشر يوما من الثورة كانت مصر كلها تنور وتطفي. «تستنغ… تستنغ» أو تجريب كم يقول فنيو الكهرباء. مصر كلها كانت تجرب إضاءة لمبة الحرية، وكانت اللمبة تضيء وتنطفئ بدرجات مختلفة ومدد مختلفة كل يوم، حتى أضاءت يوما كاملا من أول الليل حتى الصباح، يوم تنحي مبارك عن الحكم في 11 فبراير (شباط) 2011. وكانت مصر يومها في لحظة أشبه بلحظات المعجزات، شيء أقرب إلى انشقاق البحر لموسى، ومع ذلك لم يغرق الفرعون هذه المرة. انشق البحر وعبر الفرعون إلى شرم الشيخ، ثم عاد على سريره في المحكمة كما كنا نرى، ولم نعد نراه ولا يرانا الآن، لأن «الدنيا ضلمت تاتي».في يوم 25 يناير (كانون الثاني) جربنا إضاءة اللمبة من أجل نور الله ونور الوطن، وأطفأها البوليس، في يوم 26 أوقدت اللمبة بقليل من دم الشهداء في السويس أولا، ومع ذلك استطاع البوليس أن يطفئها في نهاية اليوم. وكانت محاولات إضاءة لمبة الثورة مجرد محاولات للتجريب، نوقدها فيطفئها البوليس، حتى جمعة الغضب.. يوم هرب البوليس من الميدان وبدأت لمبة الثورة تنور وتطفي، حسب قدرات الوطن وطاقاته، وجاء الجيش الذي قال إنه حارس اللمبة. الجيش الذي حمى اللمبة وحامي الثورة، تلك الثورة التي لم يقتل شهداءها أحد، حسب شهادات الشهود الأخيرة. إذ يبدو، والله وحده أعلم، أن شهداء الثورة إما ماتوا بضربة كهرباء من إنارة لمبة الثورة، أو أنهم ماتوا نتيجة ضربة شمس من وقوفهم في الميدان، ماتوا لا بضربة سيف أو حتى بطعنة رمح، ماتوا بضربة شمس. هكذا تقول شهادات الشهود في محاكمة القرن، محاكمة مبارك في كلية الشرطة، وحتى الآن لم يعلق أحد على ذهاب هيئة المحكمة إلى مبنى كلية الشرطة، على الرغم من أن الطبيعي أو المفروض أن تقدم الشرطة للعدالة. العدالة تذهب إلى الشرطة ولا تذهب الشرطة إلى العدالة، إنها سخرية الأقدار. في رمزية انتقال العدالة إلى دار الشرطة بدلا من أن تقدم الشرطة للعدالة على جرائمها في حق الشعب المصري تلخيص لحالة الثورة في مصر. الثورة بدأت ترجع «بضهرها» للخلف، وأظلمت الدنيا مرة أخرى، أو أن سحابة سوداء تخيم على مصر، بما يوحي بظلام قادم، ولكنه ظلام ما قبل فجر جديد، أو هكذا يخيل لمن ما زال يحدوهم أمل في انتصار الثورة.. في مصر العدالة ذهبت إلى الشرطة وليس العكس.من أسهم في إطفاء الأنوار؟ الذين أسهموا في إطفاء الأنوار في مصر وإسدال الستار على الثورة هي قوى مختلفة، البعض منها خارجي ممن لهم مصالح في أن يبقى على رأس الدولة في يمصر رجل واحد يتخذ القرارات وتعقد معه الصفقات، كما كان الحال مع مبارك، وقوى داخلية لديها خوف شديد من موضوع التحول إلى الديمقراطية.فيما يخص القوى الخارجية، أقول إن اللعب في كهرباء الثورة، وكما حذرت من قبل في مقال سابق على صفحات هذه الجريدة، بدأه بنيامين نتنياهو وحكومة إسرائيل، فقد حركت إسرائيل قواتها ودخلت طائراتها الحدود المصرية وقتلت من قتلت، وجاء الرد المصري متوقعا كما رسمت الحسابات الإسرائيلية، حالة غضب مصرية تبعتها عمليات تظاهر أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وبعدها أعلنت الحكومة في مصر حالة الطوارئ، أي شدت الفيشة من الحائط وأظلمت الدنيا، ويبدو أن ذلك لم يكن عفويا ولكنه جاء بترتيب.أميركا أوباما، وبقراراتها المتعنتة تجاه إعلان الدولة الفلسطينية، تلك القرارات المصحوبة بأكبر ضجة إعلامية من أجل استفزاز المشاعر، أخذت الثورة بعيدا عن مسارها، بعيدا عن بناء الديمقراطية، وحولت الغضب الثوري من غضب ضد الأوضاع في الداخل، حولت الغضب الثوري إلى خارج مصر، كما كان يفعل مبارك بالحرف الواحد، فكلما اشتد الضغط على مبارك، كان صفوت الشريف يفتعل قضية خارجية يتبناها صحافيوه، ويتحول مسار الغضب مرة أخرى بعيدا عن القضايا الداخلية ويتوجه إلى الخارج. فبدلا من التركيز على الداخل المصري، أو حتى العربي برمته، أدخلتنا أميركا في نفق فلسطين مرة أخرى. ولا يجب أن نسيء الفهم هنا، ففلسطين مهمة جدا بالنسبة لنا، ولكن استخدامها بشكل تكتيكي لتفريغ الثورات من مضمونها هو أمر مقزز ومستفز. تغيير مسار الغضب الثوري لم يأت عفويا من قبل أميركا أو من قبل إدارة أوباما، بل كان بترتيب.أما العوامل الداخلية فهي كثيرة، ولكنني أخص بالذكر منها تلك الزفة الإعلامية التي صاحبت محاكمة مبارك في كلية الشرطة، ووجود المناصرين لمبارك خارج الكلية بشكل مستفز، والصخب الإعلامي المصاحب للمشهد، كل هذا حول المحاكمة إلى شيء أشبه بمولد سيدنا الحسين. وكما في الموالد يذهب البسطاء للاحتفال وهناك وفي وسط الزحام تنشل أو تسرق من كل منهم حافظة نقوده التي بها تحويشة العمر. ذهب أبناء الثورة إلى مولد سيدي مبارك وهنا لم تسرق منهم حافظة النقود فقط، بل سرقت منهم الثورة.

التعليقات