مصر الكبرى
فلسفة تطبيق الحدود الاسلامية
الدكتور عادل عامر
*ان الباعث على تشديد العقوبات في الاسلام هو الترهيب وحفظ الاموال والاعراض والانفس, وهذا لن يتأتى الا بعقوبات صارمة تزجر اصحاب النزعات الاجرامية وتطهر المجتمعات من الفساد وليس شهوة انتقام او تلذذ في تعذيب المجرمين كما يتصور بعض ضيّقي الافق, والدليل على ذلك ان الاسلام قلّص دائرة تطبيق الحدود قدر المستطاع عن طريق درء الحدود بالشبهات, والدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "ادرؤوا الحدود بالشبهات", فمجرد وجود اي شبهة في الجريمة يسقط الحد ويفتح باب التعزير او السجن وغيرها من العقوبات, فلو فرضنا ان السارق سرق لانه كان جائعا يسقط الحد, او لانه كان بحاجة الى دواء لا يملك ثمنه يسقط الحد – وهذا يفسر لنا اسقاط عمر رضي الله عنه لحد السرقة عام المجاعة – ويدخل في باب الشبهات ايضا المشاكل النفسية والهذيان والغضب وغيرها بحسب الظروف, والمسلك الثاني لتقليص دائرة تطبيق الحدود هو تحديد نطاق الحد, كما في حد السرقة مثلا يتم تعيين مبلغ معين فما يكون تحته لا يدخل في نطاق الحد حتى لو كان الباعث على السرقة الجشع فقط والرسول الكريم حدده بربع دينار في زمانه وللعلماء اجتهادات في مقداره, والمسلك الثالث لتقليص دائرة تطبيق الحدود هو تكثير الشروط اللازمة لتطبيق الحد, كما في حد الزنا, فلا يقام الحد الا بأربعة شهود شهدوا عملية الزنا عيناً, وهذا كما يقول الامام الغزالي لا يتفق, والحكمة هي الزجر وليس التنفيذ, فكيف سيحصل ذلك الا اذا كان الزانيان مجاهران بالزنا ويمارسان الدعارة علانيةً, ولذلك روي ان عمر رضي الله عنه كان يعس بالمدينة ذات ليلة فرأى رجلا وامرأة على فاحشة فلمّا أصبح قال للناس: "أرأيتم لو ان اماما رأى رجلا وامرأة على فاحشة فأقام عليهما الحد ما كنتم فاعلين؟ قالوا: "انما انت امام" فقال علي رضي الله عنه: "ليس لك ذلك, اذا يقام عليك الحد. ان الله لم يأمن على هذا الامر اقل من اربعة شهود" (احياء علوم الدين).
تطبيق الشريعة بين المسلمين لابد أن نهيئ الجو ونخاطب الناس ونعلمهم مبادئ الدين والشريعة حتى يخضعوا ويقتنعوا لأننا إذا أردنا أن نطبق الشريعة الآن في ظل جهل الناس بالشريعة سوف يقول البعض كيف نقطع يد السارق ونرجم الزاني المحصن ونطبق الحرابة ويزعم ان هذا انتهاكا لحقوق الإنسان وللأسف عامة الناس وبعض المثقفين يصدقون الغرب في هذا لأننا لم نربهم .
ولم نعلمهم مبادئ الدين منذ نعومة أظفارهم ولابد ان يكون المجتمع كله متقبلا لتطبيق الشريعة ويعلم المبادئ الأساسية والضوابط ويعلم انها في صالحه وبالتالي اذا عرف الحكم يخشى ان يقع فيه لأن مسألة تطبيق الحدود في الإسلام ليست خروجا عن حقوق الإنسان وإنما هي لحفظ حقوق الإنسان.الاسلام يريد الرحمة بالناس ولذلك شرع الحدود والعقوبات الشديدة وقلص في نفس الوقت من نطاق تطبيقها ويكفي دليلا واقعيا على ذلك ان طيلة فترة عمر والتي بلغت عشر سنوات لم يتجاوز عدد الايدي المقطوعة عدد اصابع اليد!. اذاً فالمسألة ليست كما يتصور البعض: "مجزرة هائلة.. هذا يجلد وهذا يقطع وهذا يرجم, ولكن الواقع ان هذه العقوبات لا تكاد تنفذ" (شبهات حول الاسلام).
ولكن مع ذلك لا بنبغي للحاكم (او الدولة بالمفهوم المعاصر) ان تتساهل بتطبيق الحدود اذا ما وصلت ليديه ولم تكن شبهة تقتضي اسقاط الحد, ولذلك عندما جاء اسامه بن زيد يشفع عند الرسول عليه السلام بخصوص المرأة القرشية التي سرقت – من دون سبب سوى الجشع – قال: "أتشفع في حد من حدود الله؟!.. وأيم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها!" صلى عليك الله يا خير البشر. ومثله ما روى ابن مسعود قال: "اني لاذكر اول رجل قطعه النبي (ص), اتي بسارق فقطعه فكأنما أسف وجهه. فقالوا يا رسول الله كأنك كرهت قطعه. فقال: "وما يمنعني! لا تكونوا عونا للشيطان على اخيكم؟" فقالوا: "ألا عفوت عنه! فقال: "انه ينبغي للسلطان اذا انتهى اليه حد ان يقيمه! ان الله عفو يحب العفو.."
وفلسفة الحدود في الشريعة الاسلامية هي :-
أولاً: الحدود فى الإسلام إنما هى زواجر تمنع الإنسان المذنب أن يعود إلى هذه الجريمة مرة أخرى. وهى كذلك تزجر غيره عن التفكير فى مثل هذه الفعلة وتمنع من يفكر من أن يقارف الذنب ، وهى أيضًا نكال " مانع " من الجريمة على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.
ثانيًا: إن من المقرر لدى علماء الإسلام قاعدة " درء الحدود بالشبهات " أى جعل الظن والشك فى صالح المتهم.
ثالثًا: ليس المراد بالحدود التشفى والتشهى وإيقاع الناس فى الحرج وتعذيبهم بقطع أعضائهم أو قتلهم أو رجمهم. إنما المراد هو أن تسود الفضيلة ، ومن هنا نجد الشرع الشريف ييسر فى هذه الحدود. فإذا اشتدت الظروف فى حالات الجوع والخوف والحاجة تعطل الحدود ، كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى عام الرمادة. ومن التيسير أيضًا أن الإسلام يأمر بالستر قبل الوصول إلى الحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ يشهد على الزنا (لو سترته بثوبك كان خيرًا لك) رواه أبو داود.
رابعًا: الشريعة الإسلامية شريعة عامة لكل زمان ومكان ، والناس مختلفون فى ضبط نفوسهم ، فلابد من وجود عقاب رادع يضبط أصحاب النفوس الضعيفة من الوقوع فى الجرائم والحدود والردة عن الإسلام حتى يسلم المجتمع من الفساد ظاهرًا وباطنًا.
خامسًا: الحدود إنما هى جزء من النظام الإسلامى العام ، فلابد من فهم النظام ككل حتى تفهم الحدود ولا يمكن تطبيق الحدود إلا مع تطبيق النظام الإسلامى ككل وإلا لا ينسجم الأمر ولا تستقيم حكمة الله من تشريعه.
سادسا:- الحدود دعوة صريحة للتخلق بالأخلاق الحسنة التى هى من مقاصد الدين وهى أيضًا طريق إلى التوبة إلى الله ، فالمذنب إذا عوقب بعقاب الشارع الذى هو منسجم مع تكوينه وواقع وفق علم الله تعالى به وبنفسيته فإن هذا يخاطب قلبه ومشاعره بوجوب الرجوع إلى ربه. ويكفى ارتداع المسلم عن الجريمة ودخوله فى رحمة ربه معرفته بأن ربه هو الذى شرع له هذا الحكم ، فإن هذا وحده من شأنه أن يجعله يتوب وينجذب إلى ربه ويصير مؤمنًا بالله جل جلاله خاصة إذا علم أن هذا الحد يكفر عنه هذا الذنب.
سابعًا: الإسلام دين ، والحدود والتعاذير إنما هى فى كل دين بل وفى كل نظام قانونى ومن أراد على ذلك مثال فالتوراة مثلاً تأمر بحرق الزانية والزانى إذا كانت ابنة كاهن. ذلك قولهم " وإذا تدنست ابنة كاهن بالزنا فقد دنست أباها ، بالنار تحرق " (اللاويين 21: 9 ). ومن النظم القانونية من يأمر بقتل الخارج على النظام إلى غير ذلك.
ثامنًا: الحدود عقوبات واعية تتناسب مع النفس البشرية والعقوبات البديلة خالية من هذه القيم.
طبق الاسلام كشريعة بما فيها الحدود لثلاثة عشر قرنا, وقد كان من المتحمسين لتطبيق الحدود المفكر والمناضل المسيحي "فارس الخوري" وغيره من المفكرين العظام من غير المسلمين حتي وفي النهاية اوجه كلمة لاخوتي الذين تأخذهم بعض الشبهات حول الإسلام لا تجعلوا الشك عائقا امامكم ومنفرا لكم من الدين, بل اجعلوه ايجابيا كما يقول "عباس العقاد" ابحثوا, خذوا الاسلام من اهل الاسلام اولا ثم اقرأوا بعده لمن شئتم من المستشرقين واختاروا عندها الطريق التي تشاؤون.. لا تسمحوا لاحد ان يشوه صورة الاسلام في نفوسكم.. هذا دين الله, هذه شريعة الله, هذا حكم الله "ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون" – صدق الله العظيم.