مصر الكبرى

01:50 مساءً EET

د. عادل عامر يكتب … التيار الإسلامي والثورة المصرية

أثارت مواقف الإسلاميين المتباينة من الثورة المصرية الكثير من الجدل الذي تستحق معه المزيد من التأمل والدارسة بالرغم من أن تعامل الدعاة والتيارات الإسلامية مع الأزمة لم يكن مفاجئا لغالبية المهتمين بدراسة الحركات الإسلامية

عدا في مواقف قليلة شكلت صدمة أو دهشة أو خيبة أمل. تباين مواقف الإسلاميين جاء من اختلاف المدارس الفكرية التي ينتمون لها ولأمور أخرى قد تتعلق ببعض الحسابات الشخصية والجماهيرية لدى البعض منهم.ما يهمنا هنا: لماذا أيد هؤلاء الثورة ورفضها آخرون؟الإجابة قطعا لم تكن تحتاج إلى قيام الثورتين المصرية والتونسية لمعرفة آراء هؤلاء الدعاة والعلماء والحركات والتيارات المختلقة حيال المظاهرات المناهضة للحكام فالإشكال عند الممانعين هو أيديولوجي بالأساس فحتى وإن نجحت الثورتين وقامت ثورة ثالثة ستبقى المواقف دون تغيير لدى الغالبية العظمي مالم يتم إعادة قراءة ومراجعة هذه الإشكاليات العالقة في مسائل الخروج على الحكام والسمع والطاعة وتطبيقاتها الفقهية على الحالات المعاصرة. لا أهدف هنا إلى رصد جميع المواقف واستقصاءها وإنما لوضع الخطوط العريضة لمعالم الاختلاف مع عرض بعض الأمثلة والمواقف في سبيل المساعدة على دراستها وقراءتها وفهمها وتحليلها. ومن خلال استعراض أبرز المواقف على الساحة الدينية نستطيع أن نقسم مواقف الإسلاميين إلى فريقين رئيسيين متضادين أولهما مؤيد والثاني معارض وهم الذين عبروا بوضوح عن مواقفهم فيما تدرج آخرون في التعبير عن موقفهم مع تصاعد وتيرة الأحداث فيما آثر آخرون الصمت لما بعد مرور العاصفة. يتصدر الإخوان المسلمون والسلفية الحركية (السرورية)، الفريق الأول وهو المحتفي والمؤيد بما قام به شعبي مصر وتونس من ثورة لإسقاط الأنظمة الحاكمة.غاب الإخوان عن المشهد في البداية بسبب المضايقات الأمنية التي تعرضوا لها فآثروا عدم الإعلان عن المشاركة الرسمية في يوم الغضب 25 يناير برغم المزاعم الحكومية بضلوع الإخوان في التخطيط للمظاهرات، لكن سرعان ما تصاعدت وتيرة الأحداث وعاد الإخوان للمشهد السياسي في جمعة الغضب 28 يناير وأصدروا بيانات رسمية تعبر عن مطالبهم وظهرت مشاركتهم الفاعلة على أرض الواقع ففي الوقت الذي تعرض فيهم الشباب المحتج للقمع من قبل النظام السابق كان الإخوان صامدين في ميدان التحرير بل إن أعدادهم باتت تتزايد خشية أن يحدث تراجع. تأثير الإخوان على الأرض عم أرجاء البلاد فلا مكان للتظاهر إلا وفيه إخوانيون وإن لم يظهروا بشعاراتهم المعروفة، هذا التواجد المكثف والمؤثر لا يحتاج لمزيد من العناء لإثباته فنظام مبارك الذي لا يعترف بالإخوان ولا يعرف إعلامه الرسمي سوى مسمى (الجماعة المحظورة) دعا صراحة الإخوان المسلمون عبر نائب الرئيس عمر سليمان ورئيس الوزراء الجديد أحمد شفيق للانضمام للحوار الوطني للتفاوض مع النظام شأنه شأن القوى السياسية الأخرى. دعاة الإخوان أيضا كانوا مصدر تهييج وحشد جماهيري سيما الشيخ يوسف القرضاوي رئيس اتحاد علماء المسلمين والذي يحظى بمكانة مرموقة في العالمين العربي والإسلامي موقف القرضاوي كان قويا جدا ومؤيدا للثورة ومطالب الشباب لأبعد مدي فالشيخ القرضاوي لم يتوارى عن الهجوم على النظام المصري، داعياً الشباب إلى استمرار الاحتجاجات حتى سقوط النظام وتنحى مبارك. أيضا كان للداعية وجدي غنيم كلمة صوتية بُثت على الإنترنت يوم جمعة الغضب 28 يناير أعرب فيها عن تحيته الشعب المصري قائلا إن هذه الاحتجاجات تأخرت كثيرا مؤكدا على أن خروج الشعب المصري للشوارع ليس بدافع اقتصادي وإنما لتغير المنكر وإسقاط نظام المجرم مبارك -على حد تعبيره-، وغنيم هو داعية إخواني بارز عاني كثيرا من النظام المصري مما اضطره لترك مصر والإقامة بالخارج متنقلا بين أمريكا وانجلترا وجنوب افريقيا والبحرين ويقال أنه يقيم الآن باليمن وهو دائم الهجوم على شخص الرئيس مبارك وقال علانية بتكفيره في أكثر من مناسبة سابقة. واتفق مع غنيم الداعية السعودي عوض القرني الذي اتهمه نظام مبارك بتمويل التنظيم العالمي للإخوان وقضت محكمة جنايات أمن الدولة العليا عليه غيابيا بالسجن خمس سنوات. القرني كان من أسعد الناس بسقوط النظام الذي هاجمه هو مرارا وبشراسة منذ اتهامه من قبل السلطات المصرية معلنا عن تأييده للثورة منذ بدايتها، كما كان سباقا لتهنئة الشعب المصري بنتائجها حيث قال في بيان له: تهنئة وتحية إجلال واحترام لشعب مصر العظيم الذي توجه إلى قاعدة الاستبداد والظلم والعمالة والخيانة والفساد بكل صوره وأشكاله والحرب لله ورسوله فزلزل بنيانها وهز أركانها و جعل عاليها سافلها و قدم في سبيل ذلك من التضحيات الغالي والنفيس بصورة حضارية راقية بهرت العالم وأصبحت معلماً تفخر به أمتنا في تاريخ البشرية المعاصر. لم يكن الإخوان المصريون وحدهم في خندق التأييد لثورة الغضب المصرية ومطالب المحتجين بإسقاط نظام الرئيس حسني مبارك فأصدر مجموعة من الدعاة والأكاديميين السعوديين بيانا حول انتصار الثورتين المصرية والتونسية عبروا فيه عن تأييدهم التام لمطالب الشعبين وتحيتهم لما قاموا به من عمل بطولي وإذا ما استعرضنا أسماء الموقعين على البيان نلمح أسماء بارزة محسوبة على التيار الإخواني وإن رفض أصحابها التصريح بذلك لأمور تتعلق بمنع السعودية للأحزاب وحساسيتها في التعامل معها كالشيخ عوض القرني والدكتور سعود الفنيسان عميد كلية الشريعة بالرياض سابقا، بالإضافة إلى المفكر الإسلامي (المستقل) محمد الأحمري والذي أعاد على موقع مجلة العصر الذي يشرف عليها نشر مقال كتبه قبل أكثر من 8 سنوات حمل عنوان: " مشروعية المظاهرات: إحياء للسنة وتحقيقا لمقاصد الشريعة" قال عنه: أنه كُتب في ظروف قديمة وزمن قديم (في 24 محرم 1423 هـ الموافق لـ6 أبريل 2002م)، ولكن الوضع متشابه، والقضية مطروحة مجددا لذى رأى إعادة طرحه. بطبيعة الحال يتصدر الفريق الثاني وهو (معارضي التظاهر) المنتمين للسلفية العلمية (التقليدية) و ما يعرف بالجامية وهم فريق من السلفية يقول مخالفوهم أنهم يبالغون في السمع والطاعة لولاة الأمر، والموقف الذي اتخذه سلفيو مصر متمثلا في جماعة أنصار السنة المحمدية ودعاتها من الدعوة لتحريم التظاهر والخروج على الحاكم وحث المتظاهرين على العودة لمنازلهم هو الموقف التقليدي لاتباع الفكر السلفي الذين يرون وجوب السمع والطاعة ويحرمون الخروج على الحاكم درءا للمفاسد. وهو منهج السلفيين عموما في التعامل مع الحكام وقد عبر عنه مفتي عام المملكة العربية السعودية، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، عندما شن هجوماً على مثيري المظاهرات والمسيرات في مصر وغيرها من الدول العربية. وقال آل الشيخ في إحدى خطبه أثناء المظاهرات المصرية إن الهدف من تلك المظاهرات هو ضرب الأمة الإسلامية في صميمها، وتشتيت شملها واقتصادها وتحويلها من دول كبيرة قوية إلى دول صغيرة "متخلفة"، داعياً إلى الوقوف موقف الاعتدال. ووصف مفتي السعودية مخططات مثيري المظاهرات بـ"الإجرامية الكاذبة" لضرب الأمة والقضاء على دينها وقيمها وأخلاقها. أيضا انتقد الدكتور محمد السعيدي رئيس قسم الدراسات الاسلامية بجامعة أم القرى موقف الشيخ يوسف القرضاوي "رئيس اتحاد علماء المسلمين" مما يجري في مصر الآن من أحداث الآن مبدياً تعجبه من استبشار الناس بما يحدث الآن في مصر من خروج الناس إلى الشوارع ومطالبتهم برحيل رئيسها كما استبشروا من قبل بما حدث في تونس مشيرا إلى أن ما فعله التونسيون وإن كان نتج عنه زوال طاغيتها فإن الذي حدث بعد ذلك ليس مما يستبشر به المسلمون فقد تولى مقاليد السلطة جماعة من ذوي التوجهات اليسارية الماركسية وليس هؤلاء بأحسن حالا في ود التدين وأهله من الليبراليين الذين كان يمثلهم زين العابدين بن علي وحزبه . وأبدى السعيدي أسفه من دخول الشيخ يوسف القرضاوي على هذا الخط وشرعنته لما يحدث من تصرفات شعبية لم تطلب منه الحكم بشرعيتها عندما قامت – بحسب قوله- الأمر الذي يقتضيه الشرع أن خلع الحكام لا يكون من طريق غلبة الدهماء, بل يُخلع الحاكم بفتوى الخاصة من الناس ولا يَتم خلع الحاكم من قبل الخاصة حتى يسموا للمسلمين بديلا عنه . بل وصل الأمر إلى تحميل القرضاوي مسؤولية الدماء التي أزهقت في مصر بتأييده للثورة ومطالبته بإسقاط النظام حيث قال الكاتب الصحفي السلفي إبراهيم رفعت وهو من المقربين من كبار دعاة أنصار السنة المحمدية إن القرضاوي زرع الفتنة في مصر وتسبب في قتل أبناءها. إذن لم يكن مفاجأ أن يخرج الشيخ مصطفى العدوي لحث المتظاهرين على العودة إلى بيوتهم عبر شاشة التلفزيون المصري ولا أن تصدر جماعة أنصار السنة المحمدية بيانا في ذلك، لكن المفاجأة الكبرى تمثلت في موقف الشيخ صالح اللحيدان عضو هيئة كبار العلماء السعودية والذي دعا مبارك للتنحي كونه المطلب الوحيد لآلاف المتظاهرين الذين يغص بهم ميدان التحرير في القاهرة وطرقات المدن المصرية. أما المفاجأة الأخرى فتمثلت في موقف الشيخ محمد حسان أشهر دعاة السلفية في مصر وأحد أكبر دعاة جماعة أنصار السنة المحمدية والذي شكل صدمة كبيرة لبعض أتباعه وأقرانه من السلفيين بمدحه الشباب الثائر وتأييده لمطالبه واصفا ما يحدث بالملحمة والعمل العظيم مناشدا الشباب بالحذر من المندسين بينهم لقطف ثمرة هذا العمل الذي وصفه بـ"المبارك"، سيما أنه موقفه هذا يتعارض مع مواقف سابقة منها خطبة جمعة بثتها قناة (الرحمة) الفضائية التي يشرف عليها قال فيها: لن تخرج أمتنا هذه من أزمة الرزق بالفهلوة ولا بالإضرابات المخربة التي تسفك فيها الدماء والتي تتحطم فيها المحال والسيارات، وأضاف: "أعداؤنا يريدون لبلدنا أن تتحول إلى فوضى، والله لو تحولت مصر إلى فوضى لن يأمن واحد منا على نفسه أو على ولده أو على ابنته، ولتتعلم الأمة مما يدور حولها من واقع مر أليم في العراق ..". وبخلاف هذه المواقف المعلنة آثر آخرون الصمت ولم يظهر لهم موقف معلن بالإيجاب أو السلب وعلى رأسهم الشيخ أبو إسحاق الحويني أحد أبرز دعاة السلفية في مصر. وخلاف هذين القسمين يوجد قسم ثالث وهم المقربون من النظام والذي اتسمت مواقفهم بالضعف والحذر وعلى رأسهم الصوفية حيث اكتفت الطريقة العزمية أحد أبرز الطرق الصوفية بمصر بانتقاد الحكومة ومطالبتها بالاستجابة لمطالب الثورة، مع تجنب الحديث عن شخص الرئيس السابق محمد حسني مبارك، فيما هاجم الدكتور أحمد عمر هاشم (رئيس جامعة الأزهر السابق وأحد أقطاب الصوفية) الثورة في مصر معلنا تأييده للرئيس السابق مبارك. وهذه المواقف التي ظهرت للسطح فالطرق الصوفية غالبا بعيد عن الإعلام والسياسة كما أنها كانت تحظى بدعم من النظام السابق وعلاقة مميزة تفتقدها سائر التيارات الإسلامية الأخرى. أيضا التيار الجهادي الذي أجرى مراجعات فكرية لنبذ العنف متمثلا في الجماعة الإسلامية آثر الصمت والترقب إلى ما بعد مرور الأزمة على خلاف عادته في تعقب الأحداث وإصدار البيانات عبر موقعه الإلكتروني على الشبكة العنكبوتية كما فعل في حادثة تفجير كنيسة القديسين قبل أسابيع. بيانات الجماعة الإسلامية لم ترى النور إلا عقب لقاء نائب الرئيس السابق عمر سليمان بمثلي القوى السياسية للحوار حيث اعتبرت الجماعة في بيان لها أن ما تمخضت عنه جلسات الحوار الوطني التي يجريها السيد عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية مع القوى الوطنية والسياسية من أفكار ورؤى حتى وإن لم تنزل إلى حيز التنفيذ بعد .. هي أمور تستحق الإشادة والتدعيم. وعقب تنحي الرئيس مبارك عن الحكم أطلت الجماعة في بيان حمل عنوان "فجر جديد يطل على مصر" اعتبرت فيه تنحي مبارك عن السلطة وتسليمه جميع سلطاته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة خطوة إيجابية في الطريق الصحيح لإنهاء الأزمة الأخيرة التي استحكمت في مصر، وإن تأخرت كثيرا هذه الخطوة، رغم مطالبة الشعب المصري بها مرارا وتكرارا. وناشدت الجماعة الإسلامية المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأن يبادر بإجراء حوار وطني جاد مع كافة القوى السياسية وممثلي المتظاهرين دون إقصاء. كما أشادت الجماعة الإسلامية بالدور الوطني للمؤسسة العسكرية المصرية للحفاظ على استقرار البلاد ورعاية مصالح الشعب المصري، وأعلنت تأييدها للمتظاهرين في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر ، الذين وصفتهم بأنهم سطروا أروع ملحمة لتحقيق مطالب الشعب المصري العادلة والتعبير عن أشواقه المشروعة للحرية والعدالة والمساواة. سقوط النظام المصري كان متنفسا قويا دفع الجماعة التي مارست العنف ضد الحكومة في الثمانيات وأوائل التسعينات قبل أن تراجع أفكارها في السجون المصرية إلى عقد أول مؤتمر لها بأسيوط بقيادة الشيخ العدوي بعد غياب دام 20 عامًا عن الساحة بشكل عام، حيث اجتمع عدد من أفراد الجماعة بمقر الجمعية الشرعية بأسيوط، وأخذوا في التحاور حول ما حدث في مصر، وهنأوا بعضهم علي الثورة. وقالت تقارير إعلامية إن اجتماعهم انتهى على ضرورة المشاركة في الإصلاح، والانغماس في الحياة العامة في مصر، من أجل رفعة شأن المجتمع. ويقول مقربون من الجماعة الإسلامية إنها عمدت إلى العودة إلى مساجدها القديمة واستعادتها بغرض ممارسة الدعوة والأنشطة الاجتماعية بعد هذا الغياب الطويل في محاولة لاستعادة حيويتها المفقودة وجس نبض الشارع حول شعبيتها ومدى قبولها لديهم قبل الإقدام على خطوة تتعلق بالمشاركة في الحياة السياسية كالمنافسة على دخول البرلمان. وبين هؤلاء وهؤلاء يبرز قسم آخر لا يمكن تجاهله وهم سلفيو الإسكندرية (وهي مدرسة سلفية لها طابع خاص اشتهرت بفكرة العمل الجماعي دون قيادة تنظيمية كالإخوان المسلمون). موقف المدرسة السلفية بالإسكندرية يمكن وصفه بالتطور مع المعطيات أو التغير التدريجي حسب تسلسل الأحداث فالبداية كانت رفضا تاما للتظاهر وذلك قبل اندلاع ثورة الغضب المصرية بأيام عندما نشر موقع صوت السلف فتوى للمشرف العام عليه ياسر برهامي أحد أبرز رموز سلفية الإسكندرية يطالب الشباب فيها بعدم التظاهر قبل أن يتحول عقب أحداث الانفلات الأمني التي اجتاحت البلاد إلى الدعوة إلى المطالبة بحماية الممتلكات العامة والخاصة وفي مقدمتها ممتلكات المسيحيين والأجانب وتحريم الاعتداء عليها والقول بوجوب التصدي للبلطجية واللصوص، والمشاركة الميدانية في إنشاء اللجان الشعبية التي صارت المساجد مقارّ لعملها، كذلك الفتوى بتحريم الاستغلال ورفع الأسعار أثناء الثورة، والتحرك فعلياً لإيجاد حلول عملية لمواجهة هذا الاستغلال بتأليف مجموعات لشراء الخضروات والسلع الغذائية من مصادرها وإعادة بيعها بأسعار رخيصة للأهالي. حيث جاء في البيان الأول للدعوة السلفية ما نصه: والواجب على المسلمين التعاونُ على منعِ ذلك، وحمايةِ الممتلكات العامَّة والخاصَّة، والتحذيرُ مِن التخريب والسَلْب والنَّهْب والسَّرِقات والاعتداءِ على الناس، وأَوْلَى الناسِ بذلك هم الصالحون مِن أبناء كُلِّ حَيٍّ؛ الذين يجب عليهم جميعًا التعاونُ والاجتماعُ على النَّهْي عن هذه المنكَرَات ومَنْعِها، ولْنُذَكِّرِ الناسَ بأنَّ الأموالَ العامَّةَ ليست مُبَاحَةً، بل هي أعظم حُرْمَةً مِن الأموال الخاصَّة. فيما ناشد البيان الثاني الخطباءَ والدُّعاةَ أن يحثوا الناسَ بكل ما هو متاح مِن وسائل التواصل على المحافظة على الدِّماء والأعراض والأموال ، والتصدي للعصابات الإجرامية التي تَعيث في البلاد فسادًا وإرهابًا وترويعًا للآمنين، والتثبت في قبول الإخبار والتكافُل والإيثار وتَفَقُّد الجيران وحثُّ السلفيون المستشفيات الخاصَّة أن تفتحَ أبوابَها لاستقبال حالات الطوارئ وعلاجِها بالمجَّان كما أشاد البيان بشهامةَ الشباب المصري ورجولتَه ووقفتَه البطوليةَ الرائعةَ في حماية الطُّرُقات والمباني والتصدي للمجرمين داعيا الجميع إلى التوبة والاعتصام بحبل الله.: حدث كل هذا التطور في خطاب التيار السلفي وممارساته، لكن ظل بعيداً عن الدور السياسي أو المشاركة الفعلية في الثورة عبر التظاهر. وهو ما يمكن أن نلمسه فعليا من خلال قراءتنا للبيان الثالث للدعوة السلفية بالإسكندرية والذي جاء فيه ما نصه" مع يَقيننا أنَّ التغييرَ الحقيقيَّ هو في إقامة دِين الله في الأرض وسياسةِ الدنيا به؛ إلا أنَّ إدراكَنا للواقع ومعرفتَنا بأنه لا بد أن تَسبق هذا خطواتٌ هي الآن في حَيِّز الممكِن والمتاح، وليست هي كُلَّ الـمَرْجُوِّ والمأمول؛ وسنلخصها في الآتي: تغيير الوضع السابق على الأحداث ضرورةٌ حتميةٌ؛ فلا يمكن أن يستمر مَن أَدَّى بالبلاد إلى حافة الهاوية -نسأل الله أن يعافيَنا منها-، ولكنَّ الكلامَ على كيفية حدوث ذلك إلى الأفضل لا إلى الأسوأ، ولا يمكن الاستمرارُ في دَفع البلاد إلى مَزيدٍ مِن الفوضى، وها نحن قد رأينا كيف أَدَّى غيابُ مرفق واحد -وهو الشرطة- إلى أنواع المفاسد و المخاوف والسَّلْب والنَّهْب؛ فكيف يطالِب البعضُ باستمرار ما يؤدي إلى الفوضى، وقد أُخرِجَ المجرمون مِن السجون، وتسلحوا بالأسلحة المسروقة؟! فكيف إذا زاد الأمرُ بفَرَاغِ باقي المرافق: مِن التجارة الداخلية، والتَّمْوِين، والتجارة الخارجية، واحتياطات البلاد مِن الغذاء والوقود، وغيرِها؟! وكيف إذا غابتْ مرافق الاقتصاد والبنوك -وبخاصة البنك المركزي- والمرتَّبات والمعاشات والمصانع والأنشطة التجارية -ولو لمدة وَجيزة-؟! كُلُّ هذه المفاسد وأضعافُها مِن التقاتُل وسَفك الدِّماء وانتهاكِ الحُرُمات سوف تكون هي النتيجة للتغيير الذي يَعقبه فَرَاغٌ، خاصةً مع غياب قيادةٍ للمظاهرات، وعَدَمِ تَوَحُّدِ الأحزاب السياسية؛ فمَن يَدفع البلادَ لمزيدٍ مِن الفوضى بحجة التغيير مع كُلِّ ما ذُكِرَ سيَتحمل نتائجَ ذلك كُلِّه أمام الله -عَزَّ وَجَلَّ-.وأضاف البيان: إنَّا نُرجِّح قبولَ إصلاحاتٍ عاجلة لإنقاذ الموقف، على أن تكون هناك فترةٌ انتقالية تمهيدًا لانتخاباتٍ حُرَّةٍ حقيقية مِن أجل تولية الأَكْفاء. سلفيو الإسكندرية كانوا أكثر إيجابية من الجماعة الإسلامية فلم ينتظروا حتى تنتهي الأزمة وتظهر خيوط التغيير ليعلنوا عن موقفهم فأقاموا مؤتمرا سلفيا أثناء ثورة الشعب المصري عبروا فيه عن تأكيدهم على هوية مصر الإسلامية فيما أبدى الشيخ محمد إسماعيل المقدم أحد أبرز دعاة الإسكندرية عدم استبشاره بالتغيير بقوله: لو البرادعي أقام دولة ليبرالية وعلمانية وحرية مش بعدها كده، كل الناس ستنال الحرية ماعدا أهل الإسلام أهل الدعوة …. ، لأنه أمريكي هو أو غيره، وأضاف ما نصه : لكن ما تحطوش أمل في الناس ديه أنها تتحمل مسؤوليتكم أنتم، التغيير الحقيقي ما يحدث في المساجد – تحفيظ القرآن الكريم هو ده تغيير- تصحيح العقيدة أعمق أنواع التغيير. لكن ياسر برهامي أصدر بيانا على موقعه "صوت السلف" يوضح تصريحات المقدم في المؤتمر مؤكدا على أن البعض فهم مِن كلام الشيخ "محمد إسماعيل" في "المؤتمر السلفي" أنه يمدح الشباب الذين قاموا بالثورة وأن موقف الدعوة قد تغير إلى المشاركة في المظاهرات، ولا أدري لماذا انبرى برهامي لتوضيح كلام المقدم ونصب نفسه متحدثا رسميا باسمه، وهل لم يكن المقدم يستطيع إصدار هذا البيان أو الخروج لتوضيح ما قاله. قد يقول البعض أن هناك ضغوطا واجهها المقدم لتوضيح ما تناقلته وسائل الإعلام عنه أو أن هناك خلافا في وجهات النظر حدث بين القطبين الكبيرين في الدعوة السلفية بالإسكندرية جعل المقدم ينصاع مكرها للبرهامي صاحب النفوذ الأكبر والشخصية الأكثر كاريزما في أوساط الشباب، فحاول البرهامي في بيانه التوضيحي لكلام المقدم التأكيد على أن موقف الدعوة المعلن والموجه إلى أبنائها ومَن يوافقهم لم يتغير، وأضاف: كما أوضحناه قبل وأثناء الأحداث، ولاعتبارات أخرى أيضًا تصب في مصلحة الثورة وترشيدها لا إجهاضها، كما يزعم البعض. ويقول الدكتور ياسر برهامي في بيانه: بينما كان فضيلة الشيخ "محمد إسماعيل" -حفظه الله- يتكلم عن أمر قد وقع بالفعل، ولم يطلب مِن أحد الاشتراك في المظاهرات، وكما سَمِع الجميع دعوتنا بعد المؤتمر للانصراف في هدوء، وهو في كلمته قد مدح الطاقات، والصفات الحسنة، والمواقف الرائعة مِن الشباب التي ظهرت خلال الأحداث، مِن: جرأة، وشجاعة، وثبات، وحرص على الكرامة. ويضيف: الذين لم يشاركوا في المظاهرات كانوا يقومون بدور هام في حراسة الأمن وضبط الشارع عن طريق اللجان الشعبية، وكذا واجب التكافل الاجتماعي مع الفقراء الذين تضرَّروا بشدة من هذه الأوضاع، والتصدي للمجرمين الذين روَّعوا الناس وصالوا على ممتلكاتهم، وكذا الدعاة الذين جهروا في عنفوان قوة الباطل، وهو أيضًا قد نبَّه في كلمته أننا لا يمكن أن نُوقـِّع لشباب الإنترنت في المظاهرات على بياض؛ فليس مِن حقهم وحدهم تقرير مصير الأمة؛ بل هم جزء منها. وقد أشار –والحديث للبرهامي عن المقدم- في كلمته إلى المأزق الذي وُضِعنا فيه؛ لأن الدستور -من جهة- مُفصَّل على فرد أو أفراد بأعيانهم، ومن جهة أخرى فإن البديل هو عمل مراجعة شاملة وجديدة للدستور الأمر الذي يعطي المغرضين فرصة للتحرش بالهوية الإسلامية للبلاد كما أشرتُ مسبقا فالاختلاف بين الدعاة والتيارات الإسلامية بالإساس هو أيدلوجي فقهي يستند إلى أدلة وتأويلات وحجج ومعتقدات لذا التلون فيه والتغيير والمجاملة مستبعدة بشكل كبير لأن الآراء من المفترض أنها صادرة عن اجتهادات وقناعات يرى أصحابها أن ما ذهبوا إليه هو رأي الشارع الحكيم الذي يدينون الله به بخلاف الآراء الشخصية لأطياف أخرى من المجتمع كانت تتعامل مع الأزمة مثل مؤشر البورصة هبوطا وصعودا بحسب الأوضاع والمتغيرات والمؤثرات الجانبية. ولتحرير محل النزاع لابد أن نعيد قراءة الشبهات حول مسائل السمع والطاعة والخروج ومفاسد المظاهرات وحالات السماح بالخروج على الحكام وهل التظاهر السلمي يعد خروجا وهل مفاسد الخروج قد تكون أقل من إيثار الصمت مع الوضع في عين الاعتبار أن الأنظمة والدساتير العربية والدولية لا تجرم الاحتجاج السلمي حتى أعتى الأنظمة الديكتاتورية تسمح للمتظاهرين بعد الحصول على ترخيص مما يعني أنه ليس خروجا على ولي الأمر، كما تعد أن الاحتجاجات من وسائل قياس الرأي والوقوف على مطالب الجماهير من قبل الحكومات التي قد تكون مغيبة عن واقع شعوبها، وقد يقول آخرون أنه قد يكون من باب إبراء الذمة أو أضعف الإيمان. ما سبق مجرد تساؤلات وفرضيات تحتاج إلى إعادة دراسة متجردة للحق من قبل المختصين مع حوار فقهي فكري بين المتضادين يعيد تقييم المواقف بناء على فقه الواقع وملابسات الأمور. فالحالة المصرية – برأيي – لها طابع خاص لا يمكن قياسه على أية حالة أخرى فالصبر والصمت فاقا حدود المعقول، فثلاثة عقود من الفساد والظلم والانحدار في شتى المجالات كانت كافية للخروج للشارع تعبيرا عن الأذى كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه عندما أشتكى له من جار يؤذيه فقال له أخرج متاعك إلى الطريق كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ:قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ لِي جَارًا يُؤْذِينِي ، فَقَالَ : انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ ، فَانْطَلَقَ ، فَأَخْرِجَ مَتَاعَهُ ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَقَالُوا : مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ : لِي جَارٌ يُؤْذِينِي ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ ، اللَّهُمَّ أَخْزِهِ ، فَبَلَغَهُ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَى مَنْزِلِكَ ، فَوَاللهِ لا أُؤْذِيكَ.

التعليقات