كتاب 11
من يرتق شرايين العراق ؟ !!
يُقال: أن ( علي بن الجهم ) واحد من شعراء العصر العباسي الأول .. كان من سكان البادية، فقدِم على الخليفة ( المأمون ) والروايات تختلف على اسم الخليفة ، فدخل عليه قائلا: ( أنت كالكلب في حفاظك للوّد… وكالتيس في قراع الخطوبِ ) والبيت وللوهلة الأولى وكما يبدو، أنه ذَمَّاً مقذعاً.. وإن صَنّفهُ علماء اللغة، والبلاغة، ضمن قائمة ( المدح بما يشبه الذم ) ولو كان الخليفة جاهلاً كحكام العراق اليوم، الذين لا يفهمون سوى لغة التهديد، والوعيد، فيما بينهم ، لأطاح برأسه في الحال، معتمداً على المعنى الظاهري دون التفكير فيه… لكنه المأمون الخليفة العالِم، والمفكِّر، بل والمؤسس لمكتبات بيت الحكمة في بغداد بعد رحيل والده ( هارون الرشيد) نظرإليه المأمون على أنه مدحاً منطلقاً من بيئة الشاعر الخشنة، ويستعير صوره الشعرية من خلالها، فأراد أن يجعل منه شاعراً، متحضراً، لطيفاً ، رقيق الألفاظ، فأمر أعوانه أن يسكنوه في دار حسنة، فيها بستان، يتخلله النسيم الرائق، على الجسر بين نهري دجلة والفرات، وأن يخالط الناس في ( بغداد) ليرى حركتهم ، ولطافة الحضر، وفنونهم، ويتذوق المرادفات اللغوية الرفيعة.. ولم تمض فترة حددّها المؤرخون بستة أشهر.. حتى فاجأ ( ابن الجهم ) الخليفة،
والمجتمع العراقي بقصيدته ( عيون المها بين الرصافة والجسرِِ~ جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري ~ أعدن لي الشوق القديم ولم أكن سلوتُ ولكن زدن جمراً على جمرِ ) وأعجب بها الخليفة أيما إعجاب حتى قال: لجلسائه كما يقول المؤرخون: ( خشيتُ عليه أن يذوب رقّة ولطافة ) من هنا نجد أن رؤية الخليفة قدتحققتْ، ورّقت ألفاظ الشاعر، وتطورت جمله الشعرية، وتلاشت ألفاظه الفظّة، الخشنة الغليظة..وهذا يعود إلى التأثر بالحضارة العظيمة التي كانت تعيشها بغداد في ذلك الوقت، وتصدِّرها إلى العوالم الإسلامية حتى
وصلت إلى الغرب … الآن ( بغداد) صناعة ( أبوجعفر المنصور) وتحفة ( هارون الرشيد) ومنبع المعارف، ومركز بيوت الحكمة، وقلعة العلوم، وموطن المذاهب الفقهية، وميناء
( السندباد) على البصرة، وموسيقى ( إبراهيم الموصلي، وابنه) لم تفلح في مواجهة الخراب، والدمار، ولغة الرصاص، منذ وقعت في فخي أمريكا التي كانت تراهن على ديمقراطية العراق كنموذج لبقية دول الشرق الأوسط الجديد المزعوم ، وفخ إيران ، فأصبحت مرتعاً للفتنة، وشُحنة للمذهبية، وبؤرة للطائفية، تتقاذفها الأيدي، ما بين المرتزقة والخونة، والمتربصين، من داخل البلاد وخارجها، وغدت في حالة أبشع من حالتها أثناء غزو المغول عام ١٢٥٨م .. تكتوي بنيران الرصاص، وتتلوى بآلام التجويع، تتقاذفها الأيدي بين سيطرة إيران وتبعيتها، والطامعين فيها، ولم يحصد العراق من الحكام الجدد، إلا النزاع بين بقايا البعثيين، والخاضعين لإيران، والمرتزقة، وبينهم الخونة، معتمدين مناهجهم الطائفية فوق وحِدة وطنهم .. يزرعون الفوضى، على جثث الموتى، والثكالى ، والأرامل من النساء والأيتام، الذين فقدوا رجالهم في هذه الحروب العبثية، لقد فقدت العراق لحمتها البشرية، وبنيتهاالوطنية، والتحتية، وتفتتت وحدتها القوية، وانعدمت أبسط الخدمات للمواطنين من ماء، وكهرباء، وغذاء، وجُفّفَ نهر الفرات ، وربما يمتد التجفيف لنهر دجلة فالمتربصين من الشمال يجدون فرصتهم لتحقيق أهدافهم السلطوية، وتعطيش العراق، وتجويعه، وهو الذي يملك الثروات النفطية، والزراعية، والعقول المبتكِرة، والقوة البشرية، هل من المعقول وكما يقول تقرير البنك الدولي أن ٥٠٪من أطفال جنوب العراق تحت خط الفقر وبلادهم مأوى الثروة ؟
العراقيون سئموا الدمار، سئموا الكذب ، سئموا الوعود المجانية، يريدون حكومة عراقية، موحدة، يرفرف عليها الأمن والاستقرار، وينعم بذلك جميع مواطنيها، بشتى مذاهبهم، وطوائفهم، وقومياتهم، دون أن يطغى فصيلٌ على آخر.. وهذه أبسط حقوقهم التي يكفلها، أي بلدٍ لمواطنيه، تعبَ العراق، وتعبنا معه وهاهي انتفاضة البصرة تأتي ، وستدركها كل المناطق العراقية … في صيحة واحدة من الشعب العراقي العربي الأبيِّ ، حتى يأتي ذلك الحاكم الذي لا مصلحة له سوى رفعة العراق وشعبه، والنهوض به من مستنقع الخراب والدمار، وترتتق شرايينه الطافحة بدماء الأبرياء، ويعود العراقيون لوطنهم ، رافعين شعارات العمل، والعمران، والكفاح، والتطوير.. نابذين كل الشِعارات التي اغتالت عراقهم، وعراق العرب الجميل، وريث الحضارات العربية، والسومرية، والآشورية، والبابلية.