مصر الكبرى
مرسي .. بين طموح الجماعة ومنطق الدولة
أشرف راضي
بدأت مرحلة جديدة في التطور السياسي لمصر بتنصيب محمد مرسي كأول رئيس جمهورية منتخب في مصر. وأكد مرسي في الخطابات المتعددة التي ألقاها، منذ كلمته في المؤتمر الصحفي الذي عقده فجر الاثنين 18 يونيو، أن فوزه بتوفيق من الله أولاً ثم بإرادة الناخبين ثانياً.
الحقيقة التي لم يرغب مرسي في ذكرها هو أنه مدين في فوزه في الانتخابات أولاً وأخيراً لجماعة الإخوان المسلمين التي رشحته، وبموافقة 56 ضد 52 عضواُ من أعضاء مجلس شورى الجماعة، وكرست لحملته ما يلزم من موارد مالية وبشرية وتنظيمية، ووقفت وراءه بقوة وخاضت الكثير من المعارك دفاعاً عنه، ووفرت له الحشد والتعبئة أثناء التصويت وبعده. باختصار، كانت جماعة الإخوان المسلمين القوة الحاسمة التي ضمنت له الفوز بالرئاسة.
من الناحية الرسمية، اتخذ مرسي، وتأكيداً لوضعه الجديد كرئيس لكل المصريين، ذات الخطوة التي أقدم عليها سعد الكتاتني بعد انتخابه رئيساً لمجلس الشعب، وأعلن انتهاء صلته التنظيمية بكل من حزب الحرية والعدالة الذي كان يرأسه وبجماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليه تنظيمياً وفكرياً، وفي حين أحل المرشد العام للجماعة مرسي من بيعته لم يقدم مرسي على خطوة مماثلة وإعلان تحلله من البيعة، التي تعني الولاء التام للمرشد وإقرار بأنه الزعيم الأعلى للجماعة بمستوياتها المختلفة في الداخل والخارج.
وقدم مرسي بعد إعلان نتائج الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، الكثير من الوعود والتعهدات لكسب تأييد قوى سياسية أخرى خارج الجماعة، ولطمأنة القوى السياسية والمجتمعية التي يخيفها صعود الإخوان المسلمين للسلطة. ومن شأن تنفيذ هذه الوعود والتعهدات السياسية التي ضمنت له أصوات فاقت مرة ونصف عدد الأصوات التي حصل عليها في الجولة الأولى، أن تحصل الجماعة على موقع في السلطة يقل كثيراً عن طموحاتها، ويقل عما تستحقه بوصفها القوة السياسية الأقدم والأفضل تنظيماً، وبالتأكيد فإنه لا يساوي، من وجهة نظر أعضائها، ما قدمته من تضحيات على مدى عقود، والأهم أنه سيعطل تنفيذ برنامجها السياسي الذي ظلت لعقود تتحين الفرصة لتنفيذه.
وبغض النظر عن اللغط الذي صاحب إعلان فوز مرسي في الانتخابات، وبغض النظر عن اعتقاد كثير من المراقبين في الداخل والخارج بأن النتائج التي أعلنتها اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة يوم الأحد 24 يونيو لا تعبر عن النتائج الفعلية، تسلم الرئيس الجديد مهام منصبه في ظل ملابسات، سيكون لها تأثير على وضعه في نظام السياسي آخذ في التشكل. ويحتل مرسي وضعاً فريداً يتطلب مهارات سياسية شخصية، لا يوجد ما يشير إلى أنه يمتلكها، على الأقل في حدود المتاح من معلومات عن سيرته الذاتية. حتى خطواته الأولى في معركته من أجل انتزاع صلاحياته وسلطاته كرئيس، اعتمد فيها بصورة رئيسية على ما لدى جماعة الإخوان من إمكانيات وقدرات.
لكنه اعتمد أيضاً على الدعم الذي قدمه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي أدار شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية، والذي حرص على تدعيم منصبه وحشد مؤسسات الدولة ومواردها خلفه، رغم أنه أول رئيس للجمهورية يأتي من خارج الجيش، ورغم الخلاف بينهما على الإعلان الدستوري المكمل الصادر يوم 17 يونيو، والذي يرى مرسي وكثير من القوى المعارضة للمجلس العسكري أنه تقليص لصلاحياته كرئيس منتخب وحول حل مجلس الشعب المنتخب الذي يسيطر عليه حزب الحرية والعدالة، تنفيذاً لحكم المحكمة الدستورية الصادر يوم 14 يونيو، أي قبل يومين من التصويت في الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة.
جاء إعلان فوز مرسي في الانتخابات بعد أسبوع من التصويت، وهو أسبوع حافل بالتطورات وتداخلت فيه المفاوضات بين المجلس العسكري وبين قيادات من جماعة الإخوان المسلمين مع الضغوط الداخلية والخارجية على المجلس العسكري والتهديد من انفجار للأوضاع إذا أعلن فوز المرشح المنافس أحمد شفيق، والتهديد بأعمال عنف في كل أرجاء البلاد، مع التلميح بأن العنف قد يكون مسلحاً وقد يتحول إلى ثورة عارمة ثانية تطيح بالمجلس العسكري، ورسخت جماعة الإخوان المسلمين نفسها كقائدة للثورة الثانية، وهو ما سعت إليه منذ 11 فبراير 2012.
لم تتكشف بعد تفاصيل المفاوضات التي دارت بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين، ورغم إعلان مصادر من الطرفين أن الخلافات بينهما لا تزال كبيرة حول الإعلان الدستوري المكمل وحل مجلس الشعب، إلا أنهما توصلا إلى اتفاق على ما يبدو فيما يتعلق بنتائج انتخابات الجولة الثانية واتفقا كذلك على استمرار عمل تأسيسية الدستور إلى أن يبت القضاء في أمرها، وترك بقية النقاط الخلافية لتحسم أيضا من خلال القضاء.
ولا يمكن في حدود المتاح من معلومات تحديد ما إذا كانت العلاقة بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين تتحرك في اتجاه الصدام أم التوافق، وهناك انقسام واضح في الرأي بين المراقبين والمعنيين حول هذه المسألة، ولكن الأمر المؤكد أن الرئيس الجديد يقف عند نقطة ما على المسافة الفاصلة بين المجلس والجماعة، ولكن هذه النقطة نقطة فريدة لأنها تضعه على قمة مؤسسات الدولة التي تسلم رئاستها، وليس واضحاً بعد ماذا سيفعل مرسي بهذه المؤسسات، رغم وعوده بأنه لن تكون هناك "أخونة" للدولة.
لقد تسلم مرسي رئاسة دولة لها تقاليد في الممارسة السياسية، يثور خلاف حول طبيعتها. فهناك من يرى أن للدولة المصرية تقاليد مدنية، بغض النظر عن أسلوب الحكم وطابعه الاستبدادي وبغض النظر عن الدور المحوري الذي تلعبه المؤسسة العسكرية. وهناك ميل لدى القائمين على شؤون هذه الدولة لعدم الخلط بين الدين والسياسة، وهو تقليد تثور مخاوف بشأنه في ضوء خلفية الرئيس المنتخب في جماعة الإخوان المسلمين والنبرة الدينية الواضحة في خطابه السياسي، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى التشكك في مدى تمسكه بمدنية الدولة.
لكن هذه الدولة كانت موضع انتقاد، ولأسباب مختلفة، من قبل جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الدينية الأخرى، ومن القوى السياسية المنتمية للتيار القومي العربي ولتيارات اليسار المختلفة وكذلك للتيارات الليبرالية، كما أن مؤسساتها في حاجة ملحة إلى إصلاحات جذرية، كما توجد حاجة أكثر إلحاحاً لإعادة صياغة علاقتها بالمجتمع الذي تدير شؤونه، وهي علاقة معقدة وتحتاج إلى حساسية شديدة في التعامل، لعدة أسباب ليس أقلها كبر حجم جهاز الدولة والأساليب المعقدة التي يعتمدها في إدارة شؤون المواطنين، فضلاً عن الدور المحوري الذي تلعبه البيروقراطية الأمنية في تسيير الأمور داخله.
لقد تضمن الخطاب الذي ألقاه الرئيس المنتخب في ميدان التحرير، وكذلك الخطاب الذي ألقاه في جامعة القاهرة وفي حضور رموز للقوى السياسية المصرية، والخطاب الذي ألقاه أثناء مراسم تسليمه السلطة، والذي أقامه المجلس العسكري، إشارات واضحة لرغبته في تحقيق ذلك الإصلاح. ولكن من غير الواضح النهج الذي سيعتمده في هذا المسعى، والأرجح أن الكيفية التي سيشكل من خلالها فريقه الرئاسي والحكومة التي سيشكلها، ستحدد إلى حد كبير، في أي طريق سيسير، وهي أمور محكومة بشكل التوازن الذي سينجح في إقامته بين المجلس العسكري الذي لا يزال متحكماً في كثير من موارد الدولة ولا يزال متحكماً في التشريع، وبين جماعة الإخوان المسلمين.
وسيعتمد هذا التوازن إلى حد كبير على كيفية حل الأزمة الناجمة عن حكم المحكمة الدستورية الخاص بعدم دستورية بعض مواد قانون انتخابات مجلس الشعب وهو الحكم الذي ترتب عليه حل مجلس الشعب. إلى الآن يقف الرئيس الجديد في صف القوى الرافضة لحل مجلس الشعب، التي احتشدت في اعتصام مفتوح في ميدان التحرير أو التي اجتمعت في قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة، رغم قبوله حلف اليمين أمام الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية، لكن من الواضح أن المجلس العسكري متمسك بموقفه ولم يعد في وسع هذه القوى سوى اللجوء إلى القضاء لتغيير حكم المحكمة الدستورية أو إعادة تفسيره.
ومن شأن هذا التحرك أن يؤدي إلى تعزيز السلطة القضائية كمقوم من مقومات السلطات الثلاث في الدولة بمفهومها الحديث القائم على الفصل والرقابة المتبادلة بين السلطات – التشريعية والتنفيذية والقضائية. وفي وضع كهذا، يصبح وضع الرئيس المنتخب كحكم بين السلطات أكثر غموضاً، بغض النظر عن رغبة الرئيس وبغض النظر عما جرى عليه العمل في النظام السياسي المصري الذي تمتع فيه رئيس الجمهورية بصفته رئيساً للدولة بدور مركزي في النظام السياسي أتاح له أن يكون حكماً بين السلطات. كذلك، فإن هذا الدور يحتاج إلى نصوص دستورية واضحة وآليات مؤسساتية لا تتوافر في الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011 ولا في الإعلان الدستوري المكمل. ومن غير الواضح، ما إذا كان الدستور الذي يجري وضعه سيتضمن بنوداً تعيد إنتاج النظام الذي عارضته كثير من القوى التي وقفت وراء مرسي بسبب رفضها لمنافسه بسبب مخاوف من أنه سيعيد النظام الذي ثاروا ضده.
لقد تأسست دولة الاستبداد التي هيمن عليها العسكر على نظام رئاسي يضع في يد الرئيس صلاحيات واسعة وسلطات مطلقة، ساعدت من يشغل منصب الرئيس على تركيز كل السلطة التنفيذية في يديه ومنحته صلاحيات كبيرة في سلطتي التشريع والقضاء، على نحو أدى إلى إفراغ مبدأ الفصل والرقابة المتبادلة بين السلطات من مضمونه.
المفارقة التي تسترعي الانتباه هنا، هي أن المطالبين بمنح الرئيس الجديد صلاحيات كاملة، إنما يطالبون بأمر يتناقض بشكل صارخ مع منطق الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية الحديثة الذي يتطلعون إلى تحقيقه، ويتعارض مع نضال سياسي طويل لتقليص صلاحيات الرئيس، وهو نضال بلغ أوجه طوال العقد الأول من الألفية الجديدة. وموقفهم هذا لا يفيد بالتأكيد في النقاش المتوقع أن ينشأ في اللجنة التأسيسية للدستور بخصوص شكل النظام السياسي المأمول والعلاقة بين السلطات في الدستور المقترح.
والأرجح أن القوى التي تقف وراء هذا المطلب، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، إنما تستهدف من هذا المطلب، التأثير على عملية وضع الدستور بما يسمح بالإبقاء على الملامح الأساسية للنظام الرئاسي الذي عرفته مصر، لما في ذلك من أهمية لتنفيذ مشروعها السياسي والهيمنة على مقدرات الدولة المصرية وتوظيفها في هذا المشروع بأبعاده المجتمعية والإقليمية والدولية. بالطبع، كان من الممكن لهذه القوى أن تتبنى مطلب تقليص صلاحيات الرئيس وتقييدها، إذا فاز في الانتخابات المرشح المنافس.
ولكن مسألة تعزيز صلاحيات الرئيس لا يجب أن تطرح من منظور حزبي ضيق، وإنما يجب أن تطرح من منظور ما يناسب الدولة المصرية ويناسب تطورها السياسي في المستقبل. ويجب أن تطرح هذه المسألة لحوار مجتمعي أوسع وأن تكون موضع توافق بين القوى السياسية والمجتمعية. فهل من المناسب لدولة كمصر منح الرئيس صلاحيات تتيح له تغيير توجه الدولة وسياساتها وعلاقاتها على النحو الذي ساد على مدى العقود الستة الماضية؟ بعبارة أخرى، هل من المفيد أن نرهن الدولة المصرية ومقدراتها في يد شخص واحد يتصرف فيها كيفما شاء، وينقلب على تقاليدها، بكل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ومجازفات؟
وهل سيؤدي منح الرئيس المنتخب "صلاحيات كاملة" إلى تعزيز وضعه في مواجهة المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين معاً أم أن هذه الخطوة ستكون خصماً من وضع المجلس العسكري وإضافة لرصيد جماعة الإخوان المسلمين، التي ستستخدم هذه الصلاحيات المعززة لتعزيز مركزها في النظام السياسي الناشئ وفي استكمال بناء أركان دولة ذات مرجعية إسلامية، وإعادة إنتاج نظام استبدادي ديني، وسد الطريق أمام تطور ديمقراطي يسمح بنمو قوى سياسية قادرة على منافستها وانتزاع السلطة منها عبر الانتخابات، وبما يحول دون احتكارها لموارد الدولة مثلما فعل النظام السابق؟
الإجابة على هذه الأسئلة مرهونة بتوازن القوى الراهن، وهو توازن يعمل في صالح الإخوان المسلمين والمجلس العسكري ويقلص من الموارد المتاحة للقوى السياسية الأخرى. ويسعى الإخوان المسلمون وحلفاؤهم في المجلس العسكري إلى استغلال هذا الخلل لإعادة إنتاج النظام على أساس الشرعية الدينية، كبديل للشرعية القومية والوطنية التي قام عليها والتي تآكلت نتيجة لتطورات إقليمية ودولية غير مواتية. لكن هل ستنجح الشرعية الدينية فيما فشلت فيه الشرعيات الأخرى؟ وماذا سيكون وضع هذه الشرعية، المؤسسة على الإسلام والشريعة، إذا استيقظ المجتمع بعد سنوات ليجد أنه محكوم بنظام غير قادر على تلبية احتياجاته الأساسية وصيغة أخرى لنظام فاشل ودولة فاشلة، على النحو الذي نراه في السودان؟
هذه أسئلة مطروحة بلا شك على أول رئيس مدني منتخب في مصر، والذي يواجه في هذه اللحظة اختياراً صعباً بين طموح جماعة الإخوان المسلمين وأيديولوجيتها وبين منطق الدولة الذي يتعين عليه احترامه كي لا تختل قيادته لدولة مركزية عتيدة تتحكم في وجوه كثيرة من وجوه الحياة اليومية لمواطنيها.
وإغراء الدولة المركزية بكل ما تتيحه من قدرات في يد الحاكم تزيد من صعوبة الاختيار الذي يواجهه، وتضعه في مواجهة ضغوط لا قبل لفرد بتحملها منفرداً، فهذه الدولة المركزية تحديداً هي ما ينبغي أن يعاد النظر فيه إذا أردنا لمصر انتقال إلى تلك الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية الحديثة المنشودة، وإذا أردنا انتقال نظامها السياسي إلى نظام ديمقراطي مدني تعددي.
هذا هو التحدي الرئيسي أمام الرئيس الجديد، وستحدد الكيفية التي سيواجه من خلالها هذا التحدي مستقبل مصر، ويحتاج لمواجهة هذا التحدي أن يقترب أكثر من منطق الدولة حتى لو كان يسعى لإصلاح الدولة وأن يبتعد عن الأيديولوجية والتصورات التي لم تختبر، وأن يدرك الفارق بين منطق الدولة ومنطق الجماعة. فالمطلوب هو أن يبتعد الرئيس المنتخب عن مفهوم الأهل والعشيرة ويقترب من مفهوم المواطنة كأساس للعلاقة بين الحاكم والمحكومين والعلاقة بين الدولة ومواطنيها.