مصر الكبرى

08:37 صباحًا EET

ثورات الجلباب السوداني؟

ليس هناك تشبيه جامع مانع للثورات العربية المعاصرة أفضل من الجلباب السوداني الذي له جيبان، أحدهما من الخلف والآخر من الأمام، وتلك حكاية مركبة يأتي تبيانها لاحقا من حيث تفسير أسباب خياطة الجلباب هكذا، حيث يدعي البعض أنه نوع من التصوف عند المهدية، حيث يحيا الفرد بجلباب واحد عندما يتسخ من الأمام يقلبه ويجعل الخلفي أماميا والعكس. شيء أشبه بتغيير إطارات السيارات في العالم الحديث، «تجيب اللي قدام ورا والعكس». وكنا نتندر في مصر على لابسي هذا الجلباب قائلين: تشوف الزول منهم وتنظر إلى جيبه الأمامي الذي يشبه جيبه الخلفي الموضوع على ظهره فلا تعرف ساعتها إذا كنت تنظر إلى رجل قادم نحوك أو يمشي بعيدا عنك، «ما تعرفش إن كان الزول رايح ولا جاي». هكذا كان يقول بعضنا.

وهكذا ثوراتنا، تنظر إلى حشود جماعة الإخوان المسلمين في مصر مثلا في ميدان التحرير فكأنك تشاهد مظاهرة من مظاهرات الاتحاد الاشتراكي التي ملأت الميدان يوم أعلن عبد الناصر التنحي بعد هزيمته في الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967. لا تعرف إن كنت تنظر إلى الجيب الخلفي للجلباب، أي أن الثورة تعود إلى الخلف، حيث تشبه تجمعات الإخوان في الميادين وهي، حتى لا يساورك شك، تجمعات مدفوعة الأجر، أي فقراء أتت بهم أموال الإخوان في مصر والإخوة في قطر، من النجوع والكفور في عربات النقل الجماعي، كما كان يفعل حزب البعث في العراق وفي سوريا أو الحزب الوطني في مصر، يجمعون الناس في الميادين إما عن طريق الرشوة وإما الترغيب وإما عن طريق استخدام أدوات الدولة البوليسية، أي عن طريق الترهيب. وهكذا فعل الإخوان المسلمون في مصر منذ امتلاكهم لميدان التحرير بوضع اليد بعد أن أعلنت الجماعة فوز مرشحها محمد مرسي قبل إعلان النتيجة بأربعة أيام، وهددت الجماعة بحريق الوطن إن لم يفُز مرشحها الدكتور مرسي.
كنت في الثورة المصرية منذ بدايتها في 25 يناير (كانون الثاني) حتى تنحي مبارك، أي أنني كنت أعرف أن للثورة جيبا أماميا، وربما هو الجيب الوحيد الذي كنت أراه أيامها، ولم أكن أرى الجيب الخلفي كما في حالة الجلباب السوداني، وكنت أظن أن الثورة تندفع إلى الأمام تجاه الحداثة، ولم أرَ ما رأيته في ما بعد، إذ كان الجيب الخلفي للجلباب وللثورة بنفس مقاس وحجم الجيب الأمامي، لدرجة أنك لا تعرف إذا كان المصريون قادمين في اتجاه العالم أم أنهم يلمون الأدبار ويمشون في عكس طريق السير العالمي. الجيب الخلفي للجلباب السوداني مفتاح الفهم هنا.
خطاب رئيس مصر الجديد محمد مرسي في ميدان التحرير، الذي نصّب نفسه فيه قائدا للثورة وفاتحا صدره حرفيا ومتحديا، هو ذاته خطابه في جامعة القاهرة وساعة التنصيب. التخوف هنا أن تكون مصر اختارت خطيبا مفوها ولم تختَر مديرا ينقل مجتمعا بائسا إلى مصاف المجتمعات الآدمية من حيث مستوى دخل الفرد أو رعايته الصحية أو الحفاظ على كرامته. حيث تحدث مرسي عن الشيخ عمر عبد الرحمن المسجون في أميركا على خلفية محاولة تفجير مركز التجارة العالمي في المحاولة الأولى للإسلاميين، التي حدثت عام 1993. عمر عبد الرحمن البعيد أقرب إلى قلب مرسي من عشرات الآلاف المسجونين ظلما في مصر والذين حوكموا محاكمات عسكرية فقط لأنهم كانوا نشطاء في الثورة، منهم من قضى نحبه شهيدا برصاص الشرطة ومنهم من ينتظر في سجون المجلس العسكري. اهتم مرسي بعمر الذي هو لزوم الحشد ضد العدو الخارجي في عهدي عبد الناصر ومبارك (أميركا وإسرائيل)، وهو نوع من المزايدة الوطنية مضمونة النتائج عند من يتبنون سياسات الوطنية السوقية. الوطنية الحقة هي الدفاع عن حق المصريين في شرب ماء نظيف خالٍ من البلهارسيا، وحقهم في العيش الكريم، وحقهم في المأوى بدل الملايين التي تسكن المقابر. مطلب الإفراج عن عمر عبد الرحمن وإلقاء خطب حوله أسهل بكثير من بناء مستشفى لملايين من مرضى الكبد في مصر وبناء مدرسة جديدة.
في مصر نحن لا نعلّم أبناءنا سوى الخطابة، وجاء رئيسنا يشبهنا رغم تعلمه في أميركا أثناء دراسته للدكتوراه هناك. التحدي الجاد لرئيس جاد هو أن يأخذ بيد الفقراء في مجتمع ودولة مصنفة من أكثر دول العالم فقرا وتقع في مراتب متقدمة من حيث مؤشر الفساد، تلي في ذلك نيجيريا مثلا، وكذلك تقع إلى جوار بوركينا فاسو في مستوى التعليم. في دولة كهذه لا نحتاج إلى خطيب جمعة، ولكننا نحتاج إلى «CEO» أو مدير تنفيذي مثلما الحال في الشركات، رجل ينقل البلد من الانزلاق إلى مستنقع الفوضى الذي حذر منه حسني مبارك، فالثورة في مجتمع متخلف لا تعطي نتائج أفضل مما شهدنا من 25 يناير 2011 حتى اليوم. وهو ببساطة محاولة لإعادة إنتاج التسلطية بوجوه جديدة وصبغة جديدة مفترض أن لها علاقة بالإسلام لكنها في حقيقتها نوع من تدوير النفايات أو العودة إلى عالم «مبارك بلاس» (Mubarak plus).. وهذا هو الجيب الخلفي للجلباب السوداني.
الإخوة في السودان يجدون تفسيرات كثيرة وشروحا أكثر، مثل التقشف أو أن المحارب عند الأنصار ليس لديه وقت عندما يرتدي هذا الجلباب ليعرف أنه «معدول أو مقلوب»، ولذلك كانت فكرة الجيب الخلفي والجيب الأمامي. وهكذا الثورة في مصر، سواء أكانت ثورة الجيش التي نجحت في إزالة ما سميته بالدور المخالف للقوانين في عمارة الحكم الذي أنتجه انقلاب يوليو (تموز) 1952، أو ثورة الإخوان التي نجحت عن طريق الحشد في أن تنصب نفسها الوريث الشرعي لتركة مبارك. في كلتا الثورتين اللتين نجحتا (الإخوانية والعسكر) لا تعرف إن كانت الثورة «رايحة ولا جاية». لا تعرف إن كنت ترى الجيب الخلفي أم الأمامي.
ليست هناك رغبة في غسل جلباب الوطن من دنس الديكتاتورية والبقع السوداء التي لوثت واجهة الوطن. وكل ما نفعله في مصر هو أننا أدرنا الجلباب ولبسناه باتساخه وتلوثه ليصبح ما كان من الأمام في الخلف وما كان من الخلف في الأمام، لكن جلباب الثورة الذي يبدو نظيفا من قبل يظهر لمن يلف خلف جسد الثورة أن الثوب ملوث تماما من الدبر. ولا تنفع تفسيرات التقشف في تبرير هذا الأمر.
لدي شك كبير في قدرتنا على إقامة دولة القانون أو ما يقترب من نظام ديمقراطي بعد الثورة، ليس لأننا غير مؤهلين للديمقراطية، أو لدينا عيوب خلقية تمنعنا منها، ولكن لأن الفجوة بين الادعاء والممارسة كبيرة جدا، والأساس في البناء الديمقراطي هو تضييق الفجوة بين القيم المعلنة والممارسة إلى أقرب درجة ممكنة. فإذا أخذنا فكرة العدالة مثلا كمؤشر فإننا ندعي كمسلمين بأننا نلتزم بأن الثواب والعقاب فردي «وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»، وأن تبعات السلوك فردية من حيث تكلفة الحرية «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، لكن ممارستنا للعدالة بعد الثورة هي تطبيق مبدأ العقاب الجماعي، فلا نريد محاكمة مبارك كفرد، بل نريد كل أسرته وعائلته. الإخوة في ليبيا لم ينتقموا من القذافي فحسب، بل انتقموا من عائلته وقبيلته وتدمير المدينة التي أتى منها الرجل. حتى هذه اللحظة تبدو الفجوة بين «وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» التي هي أساس ديمقراطية الغرب، وبين ممارساتها التي تتبنى الانتقام الجماعي، فجوة كبيرة لا تبشر بخير بالنسبة لبناء معمار ديمقراطي أساسه الفرد الحر. الأساس عندنا ما زال الطائفة والجماعة. قلبنا الديمقراطية ليصبح الخلفي فيها أماميا والأمامي خلفيا. مثل ديمقراطيتنا في ذلك كمثل الجلباب السوداني، ولا نستطيع تمييز وجه الديمقراطية من قفاها. الفجوة بين الممارسة والادعاء المعلن عندنا كبيرة جدا، وهذا لا يؤسس لديمقراطية، بل يؤسس لجلباب إذا اتسخ قلبناه على الجهة الأخرى.

التعليقات