مصر الكبرى
“فرق فنية مصرية حضرت للعزف في لندن” .. المصريون عبروا عن ثورتهم بالغناء والموسيقى
مسيرة طويلة من سيد درويش حتى أبو بكر خيرت
كتبت – مروة فهمي :
أعطت الثورة المصرية التي تفجرت في شهر يناير الماضي ، فرصة لإطلاق الطاقات واستثمار التراث العريض لشعب يستند على تاريخ وتراكم حضاري عبر القرون والأحقاب .
كان مشهد ميدان التحرير خلال أيام الثورة يترجم هذا الزخم الرائع لأمة تسعى للحرية وتناضل لأجل رفع صوتها لتحقيق العدل والأمان .
هذه الصور التي بثها الميدان وجدت الصدى في كل أرجاء العالم والتقطها البريطانيون على وجه الخصوص إذ احتفوا بهذه الثورة خلال تجمعات فنية دعت بعض الفرق المصرية التي خرجت من معطف الثورة للعزف والغناء في بعض ميادين وقاعات لندن .
لقد جاءت عزة بلبع ومعها فرق شبابية تم استضافتها في مراكز ثقافية بريطانية مثل < الباربيكان > حيث تم الغناء لمصر وترديد الكلمات والألحان الثورية الإنسانية التي تتحدث عن عدل وحرية ومساواة وسلام أيضاً .
هذه الفرق المصرية الشابة التي خرجت من ميدان التحرير أيام الثورة ، هي الإضافة المتميزة لمسار طويل صنعه أساتذة الغناء والألحان في مصر عبر أحقاب طويلة . وقد عادت للحياة أغاني الشيخ سيد درويش لتتردد في الميدان وحديث ثري بالكلمات والألحان عن طوائف الشعب والتغني بالوطن وأحلامه وآماله العريضة .
كان الشيخ سيد هو صوت ثورة 1919 بإحساسها الديمقراطي وتعبيرها عن الجميع . وقد استمرت مسيرة الغناء المصري معبرة عن التطلع إلى المدنية والحرية . وكان لإقامة الكونسرفتوار في القاهرة خلال الخمسينيات بلورة لآمال جيل عريض من المبدعين والمثقفين والموسيقيين أمثال أبو بكر خيرت ود. حسين فوزي وغيرهما من أعلام شعروا بأهمية انفتاح مصر وتفاعلها مع الفنون الرفيعة الإنسانية .
وقد تربيت في حضن هذه المؤسسة الفنية الرائعة وأساتذتي الكبار هم علامات في تاريخ الوطن الفني الذين رفعوا راية الفن لمحاصرة التخلف والجهل والمرض أيضاً .
الفن المصري عريق ومتنور بالمعرفة والمشاعر . وكان هؤلاء الأساتذة يعلموننا محبة الحرية والتناغم مع روح الموسيقى التي تبني الشعوب وتحررها من الظلم والعبودية . تحدثت د. سامحة الخولي في كتُبها ومحاضراتها عن هذه المعاني كلها . كذلك كان يشرح لنا د. حسن شرارة ومجموعة كبيرة من المبدعين المصريين حقيقة الإلهام الموسيقي . واستمعنا داخل هذا الحصن الرائع لمحاضرات وأبحاث عن الموسيقى ودورها بالانفتاح على تراث العالم .
وللغناء في مصر قصة طويلة متشعبة تعكس روح الشعب وشخصيته ، لذلك تبدو دعوة بعض المتعصبين بإلغاء الموسيقى وكأن ذلك محاولة لإطلاق الرصاص على تراث واختيارات هذا الشعب العظيم .
وقد اختار المصريون خلال أيام ميدان التحرير التعبير عن ثورتهم بالغناء ، فكانت تتردد ألحان سيد درويش مع الشيخ إمام ،عدلي فخري وأشعار بديع خيري ،أحمد فؤاد نجم ،عبد الرحمن الأبنودي ، سيد حجاب ، زين العابدين فؤاد و سمير عبد الباقي .
هؤلاء الشعراء هم رحيق الوطن وتجسد الموسيقى كلماتهم في التغني بالآمال الوطنية والسعي للحرية ونشر العدالة والخروج من نفق الاستبداد .
كان الشعر والموسيقى دائماً عنوان الحياة المصرية . وكل روايات نجيب محفوظ تحفل بالأغنيات الجميلة المعبرة عن مراحل مختلفة من التلحين والآداء من أول مدرسة الشيخ علي محمود حتى محمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب ثم الجيل الذي تلى هذه الموجة ويمثله كمال الطويل وبليغ حمدي ومحمد الموجي .
مصر دائماً تغني وتعزف على أوتار الحرية ويمارس شعبها الغناء والاستماع إلى الموسيقى . وهناك أجيال تذهب إلى دار الأوبرا وتحضر حفلات للفرق الموسيقية الكلاسيكية منها والاخرى العربية . وأتذكر خلال عملي كعازفة فيولينة بأوركسترا أوبرا القاهرة الحفلات المتنوعة التي كانت تحت قيادة مجموعة أسماء لامعة واحتفظ بذكريات عن قائد الاوركسترا اللامع نادر عباسي ، الذي ظل لفترة ليست بالقصيرة يثري قاعات دار الأوبرا المصرية بأسلوبه وقيادته السلسة العميقة المتوحدة مع نبضات العمل الذي يقوده وينتقل إلى المشاهدين بعاطفة فياضة في المشاعر والأحاسيس .
والمايسترو نادر عباسي هو تراكم لمسار طويل من الإبداع الفني للدكتورة سامحة الخولي وجمال عبد الرحيم وغيرهما من رموز أجيال مصرية مثقفة وعازفة في فرق عالمية وموجودة في أرجاء العالم كله .
وقد قاد المايسترو المصري عدة فرق أوركسترالية في فرنسا وألمانيا وعدة مدن أخرى وله في مضمار التأليف الموسيقي عدة مقطوعات حظيت باهتمام ومتابعة في دوائر الموسيقى داخل مصر وخارجها .
لقد حدثت في مصر خلال مراحل نهضتها قفزات رائعة . والثورة ترجمت هذا الإرث في حشد ميدان التحرير حيث خرجت عشرات الفرق ومئات القصائد والألحان تعزف على إسم مصر أجمل الأنغام .
وقد جاءت بعض هذه الفرق إلى لندن وصفق لها البريطانيون وغنوا معها ، عن بهية المصرية والحلم المجنح في سماء الحرية يغني لمصر حرة غير مكبلة ومتألقة في حقول الإبداع التي تشدو داخلها ألحان رائعة لعُمر خيرت بجانب صوت محمد منير الجميل وعشرات من أسماء شابة تدق باب المسرح الفني والغنائي وتعلن عن نفسها بصوت مصري مرتفع .
في الذاكرة عشرات الألحان الرائعة من ألحان شعبية وأخرى معاصرة وثالثة لأساتذة التأليف الموسيقي الكلاسيكي ، حيث أبدع جيل جديد في هذا اللون ويستمع إليه العالم بكل شغف وإنصات .
والدروس المهمة في هذه الملحمة الموسيقية من أول سيد درويش حتى الآن أن الفن محرك الشعوب والغناء روحها ، والموسيقى هي سيدة الوجدان الراقي المتحضر . لذلك من يعادي الفن يستهدف نشر التعصب والخوف والموت أيضاً .
وقد تمسكت مصر منذ أيام عبده الحامولي والست ألمظ بمحبة الفن والإصرار على الغناء .
وكان هناك حُكام يشجعون الفن مثل الخديوي إسماعيل الذي شيد دار الأوبرا القديمة .
ودار الاوبرا الحالية أو مجمع الفنون صرح يعبر عن طموح مصر وإصرارها الدائم للبقاء في مقعد خاص بها داخل قطار الحضارة . والثورة المصرية احتضنت الفن واستخدمت الموسيقى لقصف حصن الاستبداد . وسيظل الغناء مع الموسيقى من أسلحة المصريين للدفاع عن أسلوبهم ورفع رايتهم ونقل تراث طويل صنعه عبد الوهاب مع أم كلثوم وأبو بكر خيرت وجمال عبد الرحيم ومجموعة رائعة من موسيقيين في معاهد مصر الفنية التي تقف وتتحدى وتعلن أن الفن من مكتسبات الشعب المصري وأدواته في التعبير عن نفسه وحياته .